الضحية الأوكرانية بوصفها الراوي الحقيقي للحدث النووي السوفييتي

كثيرة هي الأحداث التي شكلت صدمات بالنسبة إلى العالم، وصلت حدّ الكوارث، لما شهدته من مآس مازالت آثارها إلى الآن، والتاريخ حفظ لنا العديد منها، وإن كانت في غالب الأحيان غير دقيقة وواضحة، ومازالت تبحث عن مسالك أخرى قد تميط اللثام عن حقيقتها، وذلك بإعادة قراءتها ورسم تفاصيلها من قبل كتّاب يحرصون على تدوين الوقائع عبر شهادات حية لأناس كانوا على عين المكان، وعاشوا كل اللحظات المجنونة والخطيرة.
الجمعة 2016/06/10
كارثة العصر النووي

لم تكن الكاتبة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش معروفة للقارئ العربي وكذلك للكثيرين في الأوساط العالمية، وقد شكلّ حصولها على جائزة نوبل العام الماضي صدمة للمهتمين والمتابعين، لتبدأ التساؤلات عن هوية هذه الكاتبة ومنجزها وطبيعة مؤلفاتها، فتقنية الشهادات الشخصية التي لجأت إليها لسرد الحكاية وجدها الكثيرون أقرب للعمل الصحافي منها إلى العمل الروائي، إلى جانب التعامل مع التاريخ والنصوص الشخصية- التاريخيّة بوصفها بعيدة عن التخيّل، لتكون المرجعية الواقعيّة المهمشة والمخفيّة هي أساس العمل لديها، بعيدا عن التقنيات والتجريب الروائي.

إثر حصولها على جائزة نوبل بدأت كتب البيلاروسية تترجم للغة العربيّة، فهذا العام صدر لها باللغة العربيّة “أبناء الزنك” عن دار ممدوح عدوان، كما صدر أيضا كتابها الأشهر “صلاة تشرنوبل” عن دار مصر العربيّة بترجمة أحمد صلاح الدين، إلى جانب نسخة أخرى من الكتاب عن دار طوى بترجمة ثائر زين الدين وفريد حاتم الشحف، هذه الوضعية شكلت تضاربا في حقوق الترجمة، تسبب في مشاكل قانونيّة بين الدارين واتهام دار طوى بسرقة حقوق الملكيّة. أما الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في عام 1997 فهو نتاج جهود الكاتبة على مدى عشر سنوات، أجرت خلالها مقابلات مع حوالي 500 شخص، كانوا شهود عيان على حادثة تشيرنوبل وما بعدها من آثار مدمّرة عام 1986.

شهادات فردية

الكتاب لا يحوي حكاية واحدة، ولا مجموعة حكايات، بل هو مجموعة من الشهادات، والنصوص تشترك جميعها في ثيمة واحدة؛ حادثة تشرنوبل ووجهة نظر من شهدوها، في لحظات الانفجار وما بعدها، فكل شهادة تتناول شاهدا أو ضحية أو متضررا، ليحكي تجربته الخاصة بلغته الخاصة، دون أيّ تدخل من الكاتبة في ما يقال، وهذا ما يفسره غياب علامة التجنيس عن الكتاب، ويطرح التساؤلات عن طبيعة هذا الكتاب الأدبية وقيمته، وهل هو أدبيّ أم مجرد تحقيق صحافي وجمع لشهادات مختلفة مكتوبة بلغة عالية؟ لكن هذا لا ينفي قيمة المجهود الذي قامت به الكاتبة، غير أن ما هو أدبي يتلاشى في الكتاب على حساب ما هو وثائقي وصحافي، فالكتاب في شهاداته التي هي مونولوجات حسب العناوين التي اختارتها الكاتبة لكل نص، أقرب إلى وثيقة تاريخية، دون أي مقاربة للخيال أو تقنية لسرد هذه الشهادات، فما يهم هو استحضار الحكايات الصغيرة، والخسارات الشخصية التي تمس كلّ من شهد تلك المأساة، دون أي مواربات.

كتاب ينقب في مأساة تشرنوبل ويوميات من شهدوها

ما يميز الكتاب هو اعتماده على الضحية بوصفها الراوي الحقيقي والوحيد للحدث، نحن لا نقرأ أخبارا منتجة ضمن مؤسسات إعلامية وخاضعة لسياسات تحريرية، نحن نقرأ الصوت المميز للضحية؛ نبضاتها وانفعالاتها وخساراتها الشخصية. الضحية في نصوص أليكسييفيتش متحرّرة من أي قيود أو أيّ خطاب سلطوي يوجه كلامها، فهي تلملم أشلاءها لتقدمها لنا، إلى جانب وجهات نظرها عن نفسها وعن الحياة التي تغيرت كليّا، لتحكي بصدق ما حدث، كيف يمكن لمأساة بهذا الحجم أن تضرب في عمق الجوهر الإنساني، فما نقرأه لا يمثل المآسي التقليدية التي يمرّ بها الأبطال أو الأسطوريون، إذ نلامس حيوات يومية تغيرت فجأة، وحل فيها ما هو غير متوقع، وكلّ من شخوصها كان مجهولا قبل الكارثة؛ رجل إطفاء، أمّ، طبيب نفسي، عامل.

مأساة لن تنتهي

الضحية هنا تتفرد بصوتها، فالشهادات هي للذين بقوا بعد المأساة، لا يحفلون بالانهيار، الرحيل بالنسبة إليهم ليس خيارا، فما حصل قد حصل، وقصص الحب البسيطة والذكريات والخسارات هي كل ما بقي لديهم، يروونها كأنها آخر رمق، وكل ما حولهم يخضع للفحص والتمحيص والمعالجة. المأساة النووية تتسلل حقيقة إلى كلّ الذرّات، العطب أصاب الجميع، الكل بحاجة إلى شهادة تثبت قدرته على الاستمرار، وعلى تجاوز العطب، هو حضور المأساة جينيا، تقول زوجة أحد العاملين في الكارثة “الأطفال يرسمون تشرنوبل؛ الأشجار في الصور تنمو جذورها إلى الأعلى، المياه في الأنهار حمراء أو صفراء، يرسمون، ويبكون أنفسهم”.

ما حدث في تشرنوبل جرح تاريخي، وصمة عار في ضمير البشرية، والاتحاد السوفييتي هو المسؤول الأول عنها، هي كارثة دقيقة من حيث تأريخها؛ ففي السادس والعشرين من أبريل عام ستة وثمانين وتسعمئة وألف، على الساعة الواحدة وثلاث وعشرين دقيقة وثمان وخمسين ثانية، بدأت الانفجارات، في تلك اللحظة الدقيقة تغلغل تشرنوبل في أجساد وذاكرة الأحياء. الكاتبة البيلاروسية توجه اللوم مباشرة وبوضوح للاتحاد السوفييتي، لا تخفي موقفها السياسي مما حدث، وهنا يتداخل مفهوما الصحافي والأديب؛ البحث في التاريخ وتدوينه لا يشكلان مادة ثانوية للكتاب، فهو المادة الرئيسية، والهدف من البحث في تاريخ الضحايا هو الوقوف فقط على الحقيقة، وليس البناء الروائي، ولا السرد بوصفه جنسا أدبيا، بل الهدف هو البحث في اليومي لكشف المأساة، لا لاختبار الجنس الأدبي أو العمل الروائي، وهذا ما جعل التساؤلات تطرح حول الكاتبة ومدى استحقاق نتاجها لجائزة نوبل.

الشهادات التي نقرأها في الكتاب تحمل حساسية عالية، تلامس دقائق الخسارات وتأثيرها، تسبر الدفقات العاطفية المختلفة؛ الأمل، الحب، الموت، الفجيعة، لكن لا يغيب أن حادثة تشرنوبل مفصل تاريخيّ، ما حدث لا يحصر في لحظة محددة فقط، فما حدث فاتحة لسلسلة من الحيوات التي ستنهار وتستمر في الانهيار.

14