إخفاقات السياسة الخارجية الجزائرية

الخميس 2016/06/02

تناقلت وسائل الإعلام الجزائرية هذا الأسبوع خبرا يبدو عاديا ولكن تحليل خلفيته يعكس واقع السياسة الخارجية المتعثرة وغير المبدئية للنظام الجزائري. يتضمن هذا الخبر هذه الفقرة التي تتحدث عن إبرام اتفاق اعتبر “الأول من نوعه في قطاع الفلاحة، يتعلق بمزرعة لتربية الأبقار الحلوب بولاية البيض وتم تأسيس شركة تحت اسم «المزرعة العصرية» تخضع للقوانين الجزائرية بين شركة أميركية مختصة في الفلاحة ومتعامل جزائري تتوفر على 22 ألف بقرة حلوب، على مساحة 25 ألف هكتار، مزودة بأحدث التجهيزات الخاصة بإنتاج الذرة والقمح والأعلاف، إضافة إلى نظام مدمج لرسكلة الفضلات”. يبدو الخبر محصورا في المجال الفلاحي ولكنه يترجم التبعية الجزائرية للغرب في هذا المجال الحيوي وفي مختلف المجالات ذات الأهمية القصوى.

إن سماح النظام الجزائري للمتعاملين الخواص في المجال الفلاحي بعقد صفقات الشراكة مع المؤسسات الأميركية وغيرها من المؤسسات الأوروبية والغربية يعني عجز القطاع العام الذي يتحكم فيه النظام الجزائري عن تحقيق التنمية في المجالات الحيوية التي يعتمد عليها المجتمع الجزائري، كما يبرز هذا التوجه أيضا سعي النظام الجزائري إلى خلق شلة من الخواص للهيمنة على الاقتصاد الوطني، وهدفه من وراء ذلك صنع حلفاء له من المافيا المالية لتتحالف معه لضمان الاستمرارية في الحكم في المستقبل.

توجه النظام الجزائري الدفع بالقطاع الخاص إلى الشراكة مع المؤسسات الرأسمالية الأجنبية المتمثلة هنا في الشركات الأميركية يعني، بدون شك، كسب رضا القوى الخارجية إلى صفه بواسطة استخدام هذا القطاع الخاص كقناع يتستر خلفه. وهنا نتساءل: لماذا يلجأ النظام الجزائري إلى السماح للقطاع الخاص لإبرام مثل هذا النمط من الصفقات مع الدول الأجنبية، وإلى استبعاد أولوية الشراكة والتعاون مع دول الجوار في المنطقة المغاربية وفي العمق العربي والأفريقي؟ ولماذا يشجع النظام الجزائري أشخاصا معينين تابعين للقطاع الخاص لكي يعقدوا هذه الصفقات مع البلدان الغربية وفي مقدمتها أميركا، علما أن ثوابت السياسة الجزائرية الموروثة عن حركة التحرر الوطني تنص على محاربة الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات التي تربط الاقتصاد الوطني بالنمط الرأسمالي المتوحش، وتهدد في نفس الوقت القيم الأخلاقية والثقافية الوطنية وتعرّض كلّا من الأمن الجزائري والمغاربي والعربي والإفريقي للخطر الخارجي؟ ثم لماذا هذا الارتماء في أحضان التبعية للغرب في الوقت الذي كان من المفروض أن تلعب الجزائر دورا فاعلا في بناء وتجسيد مشروع التكتل الاقتصادي العربي والأفريقي؟

تفيد الإحصائيات الموثوق فيها أن عددا من الدول العربية تملك ثروة حيوانية هائلة، ولكن السياسة الخارجية للنظام الجزائري تدير الظهر لها ولا تقيم معها الشراكة الاقتصادية. لا بد من الإشارة إلى أن هذا الإقصاء يشمل تغييب الشراكة في جوانب جوهرية أخرى وفي مقدمتها المجالات الثقافية والعلمية والتقنية والتعليمية وغيرها.

وبخصوص القضية التي نناقشها فإن السودان يملك 22 مليون بقرة حلوب، كما يملك المغرب منها 5 ملايين ونصف المليون، أما مجموع البقرات الحلوب التي تملكها كل من اليمن وموريتانيا والصومال ومصر مجتمعة فيقدر بأكثر من ستة ملايين رأس. لا شك أن جزءا من هذه الثروة قادر أن يغطي حاجيات الجزائر، وأن الشراكة مع هذه الدول في صناعة هذه الثروة سيعود بالخير على المجتمع الجزائري وسيساهم في النهوض بالاقتصاد الوطني، كما أن تعاون الجزائر مع هذه الدول العربية في هذا المجال كفيل بدعم الشراكة العربية، الأمر الذي سيقوي الروابط السياسية والاجتماعية ويجنب الرأسمال الاقتصادي العربي آفة التبعية للغرب.

السياسة الخارجية الجزائرية غير مؤسسة على رؤية استراتيجية تنطلق من مبادئ حركتها الوطنية في مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي والمتمثلة مضامينها الداعية إلى ضمان الأمن الاقتصادي للجزائر المستقلة أولا، والمساهمة ثانيا في لعب دور في حماية عمقها العربي الأفريقي وضمن العالم الثالث بشكل عام.

والجدير بالذكر أن السياسة الخارجية الجزائرية تختزل غالبا في بعض المواقف مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وفي إعادة إنتاج ميراث عدم الانحياز بشكل ميكانيكي على نحو يتناقض مع ما يشهده العالم من تكتلات إقليمية إستراتيجية هدفها الأساسي ربح رهان الأمن الخاص بها.

إن قراءة ملف السياسة الخارجية الجزائرية راهنا تؤدي بنا إلى استنتاج حقيقة مرة مفادها أن النظام الجزائري يفتقد إلى التصور الاستراتيجي الكامل للسياسة الخارجية، حيث نجده يقصي عناصر جوهرية التي من دون توظيفها وتفعيلها فإن هذه السياسة تبقى ذات بعد واحد يتلخص فقط في البرتوكولات العابرة وتوقيع الصفقات والاتفاقيات التي تخدم المصالح الأجنبية الخاصة والتي سرعان ما تتبخر عند نشوب أي خلاف مع هذه الدولة الأجنبية أو تلك. يغيّب النظام الجزائري في علاقاته الخارجية ذات البعد الواحد ما يسميه المفكر الأميركي جوزيف ناي بالقوة الناعمة في بناء العلاقة مع المحيط الدولي بشكل قادر على الصمود والتأثير وتعني هذه القوة الناعمة “القدرة على الحصول على ما تريده من خلال الجذب بدلا من الإكراه أو دفع الأموال”.

بالنظر إلى ما تقدم فإن النظام الجزائري يجهل مفهوم القوة الناعمة وجراء ذلك لا يدرج الأبعاد الثقافية والحضارية والمثل العليا والسياسات الحكيمة في برنامج علاقاته الدولية، ونتيجة لذلك بقيت الجزائر معزولة ثقافيا عن محيطها المغاربي، وعمقها العربي الأفريقي، وغائبة عن المسرح الثقافي العالمي، كما أن طمس هذا البعد المركب والتأثيرات الحضارية الإيجابية الأخرى التي عرفتها الجزائر عبر التاريخ قد حرمها من أن تكون أحد مراكز الإشعاع والحوار على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.

إن إقصاء هذه الأبعاد المتزامن مع إخفاق النظام الجزائري في إنجاز عمليات الانتقال من الحكم الفردي المستبد، أو الشللي الاحتكاري، أو الجهوي اللاغي للحساسية الوطنية، إلى طور الحكم الشعبي المشبع بقيم الديمقراطية والمواطنة الجامعة وأخلاقيات التداول على السلطة، هو الذي حال بينها وبين تسويق صورة الجزائر المنشودة. من هنا ينبغي القول بأن مصداقية أي سياسة خارجية لأي بلد وتأثيرها الإيجابي مشروطان أساسا بغرس القيم المذكورة أعلاه في داخل المجتمع، وبخلاف ذلك فإن غيابها وطنيا يحول دون تسويق أيّ سياسة خارجية ذات صورة مخالفة، لأن السياسة الخارجية ليست إلا نتاجا للواقع الوطني الداخلي.

كاتب جزائري

9