النظام الجزائري الحاكم وسياسات تكميم الأفواه

الخميس 2016/05/05

لم تنته الأزمة السياسية التي فجرتها الجولات الصوفية التي بطلها وزير الطاقة والمناجم شكيب خليل، التي أولت ولا تزال تؤول بأنها محاولة من النظام الحاكم لتسويقه دينيا كخليفة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، حتى اشتعلت أزمة حرية الإعلام والتعبير في المشهد السياسي الجزائري.

ففي الثلاثاء الماضي أعلن وزير الاتصال الجزائري حميد قرين في الندوة الصحافية التي عقدها بالجزائر العاصمة بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير وبحضور عدد من الإعلاميين الجزائريين أن وزارته ستقاضي كل من يتجاوز الخطوط الحمر، ويتضمن إعلانه هذا مفارقة عجيبة حقا حيث يتناقض تلويحه بالعقاب وبالخطوط الحمر مع مبادئ مضامين اليوم العالمي لحرية التعبير. إلى جانب هذا فقد صرح حميد قرين أن في الجزائر 45 قناة تلفزيونية وشبه أغلبها بالقراصنة جراء عدم حصولها على ترخيص الدولة، وفي الوقت نفسه استدرك قائلا إن سلطة الضبط سوف تقوم بمراقبتها، كما أبرز أن وزارته سوف تمنح رخص البث للقنوات الجديرة بها في إشارة غير مباشرة له إلى أن هناك قنوات تلفزيونية أخرى وهي الأغلبية سيكون مصيرها الإغلاق لأنها لم تدخل بعد إلى بيت الطاعة. بخصوص القنوات التلفزيونية التابعة للقطاع الخاص التي يتهمها وزير الاتصال حميد قرين بأنها تمارس القرصنة، فقد أنشئت في الواقع أمام أعين النظام الجزائري ولها مقراتها في العاصمة وفي مختلف المحافظات وتعمل منذ ولادتها دون قيود. لا شك أن تهديد هذا الوزير لهذه القنوات بمراقبتها، وبتطبيق القانون ضدها الآن لا علاقة له بأخلاقيات المهنة الإعلامية أو بقوانين الإعلام ذات الصلة بالترخيص من قريب أو من بعيد، وإنما القضية تتعلق بأن بعضا منها غيرت موقفها من النظام.

هذه الوضعية تنطبق أيضا على مجمع الخبر المحال على العدالة من طرف هذه الوزارة والمهدد بالإغلاق. سبب هذه الزوبعة التي يثير غبارها وزير الاتصال يعود ظاهريا إلى إقبال شركاء هذا المجمع على بيع أجزاء من أسهمه لرجل الأعمال الجزائري المليونير أسعد ربراب. وفي الواقع فإن النظام الجزائري أعلن في الأسابيع الماضية عن رفضه لتنفيذ لشراء هذا الرجل لجزء من أسهم هذا المجمع بما في ذلك جريدة الخبر اليومية. علما بأن مجمع الخبر قطاع خاص من حيث الملكية وبقوة القانون ولا يحق للدولة أن تتدخل في شؤونه التجارية على الأقل. فهل يدخل هذا الإجراء في إطار معاقبة هذه الصحيفة جراء النقد البسيط الذي وجهته لعدد من الوزراء في حكومات عبدالعزيز بوتفليقة بما في ذلك حكومة الوزير الأول عبدالمالك سلال؟ وبهذا الشأن فإن جميع الدلائل تشير إلى أن سيناريو العقاب المبرمج ضد جميع وسائل الإعلام التابعة للقطاع الخاص، التي تخرج حينا عن طاعة النظام الحاكم سواء بالغلق التام، أو بسحب حق الانتفاع من الإشهار التابع للدولة أو للقطاع الخاص أو بحرمانها من الدعم المالي الذي كان يقدم لها منذ سنوات في السر، يدخل في إطار تصفية الحسابات مع الصحف والقنوات التلفزيونية التي ارتبطت سابقا بالأجهزة الأمنية والعسكرية واستفاد منها ماليا وذلك في عهد الجنرال توفيق مدين وجماعته.

لا شك أيضا أن النظام الجزائري يملك برنامجا آخر يتمثل في القيام بتصفية كل الجيوب التي يمكن أن تتسلل إليها المعارضة السياسية لتستخدمها كمنابر للتعبير عن برامجها ومواقفها أو لتعرية أخطاء السلطة الحاكمة الكثيرة في فترة التمهيد للانتخابات الرئاسية القادمة وأثناءها، والتي يُعتقد بأنها ستكون مبكرة وأنها ستجرى قبل موعد انتهاء العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة في العام 2019. إن ما يحدث الآن من صراع بين النظام الجزائري وبين بعض المنابر الإعلامية التابعة للقطاع الخاص لا يمكن اختزاله في المسائل القانونية أو في أخلاقيات المهنة بل هو قضية سياسية في الشكل وفي المضمون. وفي الحقيقة فإن تحرك أجهزة النظام لتقليم أظافر الوسائل الإعلامية هو بمثابة ترجمة حرفية لمشروع كبير يتلخص في ثأر النظام الجزائري من التعددية الإعلامية، والتعددية السياسية اللتين صنعهما على مقاسه.

وفي الواقع فإن ما يروَج في الأدبيات السياسية الجزائرية بالتعددية الحزبية وبالتعددية الإعلامية أمر غير واقعي رغم كثرة بنود الدستور التي تتحدث عن التعددية وتنص على ضرورة احترام الحريات الحزبية والإعلامية. وفي الحقيقة فإن فهم حقيقة ما يجري الآن من تصدعات في الساحة السياسية الجزائرية والإعلامية، ومن تداعيات مدمرة على مستوى الأحزاب والشخصيات المعارضة والمنابر الإعلامية التابعة للقطاع الخاص مرتبط بالقراءة الموضوعية لاستراتيجيات النظام الجزائري الذي هندس لولادة ووظيفة هذا القطاع الإعلامي الخاص الذي كان جزءا من ترسانة هذه الجهة أو تلك من النظام الحاكم نفسه وعلى مدى سنوات طويلة، وهذه التعددية الحزبية الشكلية في الجزائر وذلك بعد الإطاحة بالدورة الثانية لأول انتخابات برلمانية تعددية فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية في عام 1991. فالنظام السياسي الجزائري المتخندق أمنيا وعسكريا شجع في ذلك الوقت على إنشاء التعددية الحزبية الشكلية، والتعددية الإعلامية المحتشمة وفق الغايات التي سطرها، وذلك لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية في صدارتها خلق مناخ نفسي عام يسمح له بالتقاط أنفاسه وبالتغطية على القرارات التي بموجبها أجهز على تلك الانتخابات التشريعية. أما الهدف الثاني فتمثل في توظيف مظهر التعددية من أجل الظهور أمام الرأي العام الوطني والدولي بأنه يشجع التعددية السياسية والإعلامية وأن صدامه مع جبهة الإنقاذ الإسلامية هو حماية للحريات والديمقراطية.

هذه السياسات المخطط لها استفاد منها النظام الجزائري عندما انفجر الصراع المسلح حيث تمكن من توظيف تلك الأحزاب التي كان مهندسها وكذلك أغلب وسائل إعلام السلطة والوسائل الإعلامية التابعة للقطاع الخاص، التي وفر لها الرأسمال والمقرات والرعاية، في معركته لضمان الاستمرار في السلطة. وينبغي هنا ذكر حقيقة تاريخية وهي أن معظم الصحف التي أنشئت في ذلك الوقت من طرف القطاع الخاص كان أغلبها بإيعاز من النظام الجزائري ودعمها بالأموال الطائلة وبحماية مقراتها وأصحابها أمنيا. وجميع الذين أصبحوا في عشية وضحاها مالكين للصحف اليومية أو الأسبوعية باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، لم يكونوا أصحاب رؤوس أموال قادرين على تمويل منابرهم الإعلامية ذاتيا وهو الشرط الذي كان بالإمكان أن يضمن الاستقلالية وحرية التعبير بعيدا عن إغراءات واملاءات السلطة، وجراء كل هذا بقيت المنابر الإعلامية التابعة للقطاع الخاص في الجزائر رهينة ابتزاز أجهزة المخابرات والسلطات السياسية والتنفيذية.

كاتب جزائري

9