حمدي قنديل مهاجرا إلى سماء الحرية بإعلام مختلف

السبت 2016/03/19
إعلام مصر يشكو وبين ظهرانيه مدارس فريدة لا تعرف الانكسار

القاهرة - بينما يتعرض الإعلام المصري اليوم، الرسمي والخاص، لسيل من الانتقادات التي تطال مساره وتحوّلاته، بعضها محق وبعضها الآخر لا يراعي اللحظة التاريخية التي يعيشها الإعلاميون في ظل المتغيرات، فهم في دولة جديدة ليست دولة مبارك ولا دولة الإخوان والفوضى، وكل شيء يعاد تكوينه من جديد.

حينها يتساءل المراقبون؛ لماذا لا يعاد النظر في مستوى الأداء الإعلامي المصري ومعاييره وفيه مدارس عريقة لا يجادل فيها وحولها أحد. شخوص هامة عبرت الشاشات والصحف والمجلات والمنصّات الإعلامية المصرية، تبدو اليوم أبعد ما تكون عن التأثير، ليس أولها ولا آخرها حمدي قنديل.

يطلق عليه داخل الوسط الإعلامي لقب “الرحّالة”، حيث طاف العديد من البلدان العربية مهاجرا إلى الحرية في الكلمة والنقد، فلم يجدها كاملة في أيّ مكان وهو أمر يعترف به، لكنه في الوقت نفسه يعتز بأنه في المقابل لم يقدم تنازلات للاستمرار في أيّ مكان خذله فيه مناخ الحرية.

قدره أن يعيش في مجتمعات لا تقبل تجاوز الإعلاميين للخطوط الحمراء، وفي كلّ مرة قرّر الهرب من قدره. “المكبوت” طاردته أقدار عدّة ولم تنته المطاردة إلا بعد أن أنهت مسيرته الإعلامية على غير إرادته.

كان على الإعلامي المصري حمدي قنديل، الوقور شكلا مضمونا، أن يقبل في النهاية بالهزيمة بعدما عاش حياته معاندا لكل الظروف، ومصرّا على اختيار طريقه، لكنه عجز في النهاية عن أن يختار طريقة انتهائه ليجد نفسه مخيّرا بين الابتعاد القسري، حفاظا على صورته الجميلة، أو الاستمرار رغما عن قناعاته المعارضة، وهما اختياران أحلاهما مرّ.

أبناء جيله يدركون أن الانكسار لا يعرف طريقا إليه، وهو ما بدا مبكرا وتحديدا في عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين التي يعرفها المصريون باعتبارها “الحقبة الناصرية”، حيث كان قنديل يعد أحد أبرز الأقلام العربية التي اختارت المواجهة بالكلمة، كما يتذكر جيل التسعينات، الرجل الذي ناوش بكثير من الجرأة التلفزيونية النظام المصري.

قنديل أيد التوجه الديمقراطي في بلاده بوصول مرشح الإخوان محمد مرسي لرئاسة البلاد، ثم ما لبث أن طالب برحيله، وشرح ذلك في مقال كتبه قبل رحيل مرسي قال فيه (هذه الجماعة ليس لها عهد، الكلام عن صالح مصر مجرد أكاذيب، هو تغطية لمؤامرة على مصر، نشهد تفاصيلها الآن ساعة بساعة)

لا يمكن لقارئ في مسيرة حمدي قنديل (80 عامًا)، أن يتجاوز البيئة التي نشأ فيها، وسط أسرة مترابطة متدينة بمحافظة المنوفية، فوالده كان أزهريًا، رسخت بداخله مبادئ المصارحة بشجاعة، وتجنب الخوف من الاعتراف بالحقيقة، مهما كان رد الفعل، وأرخت هذه التربية بأثرها الواضح على أسلوبه وجرأته التي جذبت انتباه الكثيرين.

ملامح شخصيته تكوّنت منذ أن كان في المرحلة الثانوية، وكان والده يؤمن أنه نابغة العائلة، لكن مرض الوالد خلال فترة الامتحانات أرغمه على الاكتفاء بمجموع هزيل في الثانوية العامة خذل أسرته، فما كان منه إلا أن تحدّى الواقع، وقرر إعادة السنة الدراسية مرة أخرى، حتى يحقق المجموع الذي أراده، ويلتحق بالكلية التي تمنّاها، وبالفعل تحقق المراد، ومن وقتها اختار قنديل لنفسه طريق العناد والاستقلال بذاته.

خديعة المطبعجي

حينما كان بالصف الثالث في مرحلة التعليم الثانوي، احتدم الجدل في برلمان ما قبل ثورة يوليو 1952 حول ترميم اليخت الملكي “المحروسة” في إيطاليا، وكانت الحكومة خصصت لهذا الغرض مليون جنيه مصري، الأمر الذي استفزّ نواب المعارضة، وتأثر قنديل بإهدار الحكومة لأموال الشعب، فكتب مقالا معارضًا للبرلمان والحكومة، وتسلّل به في المساء إلى مطبعة صحيفة “الإخلاص” المجاورة لمقر سكنه، وقام بدسّه في الصحيفة بعد أن خدع المطبعجي في وردية الليل، وأغلقت الصحيفة بسببه.

هذه الجرأة التي تبدو وكأنّها تجري في عروقه، عرفها أبناء جيله منذ أن مارس الصحافة بشكل فعلي وهو طالب في الجامعة، وتم اختياره مديرا لتحرير مجلة كلية الآداب، التي لم تستمر طويلاً وصدر قرار بمصادرتها بعدما تجاوزت الخطوط الحمراء في انتقاداتها السياسية، لكنّها قادته لاحتراف العمل الصحافي، وكان مصطفى أمين نجم الصحافة المكتوبة آنذاك يتابع المجلة وتعرّف عليه من خلالها فعرض عليه العمل كمحرر في مجلة “آخر ساعة”.

"رحّالة" طاف العديد من البلدان العربية مهاجرا إلى الحرية في الكلمة والنقد

مذيع البرامج الممنوعة

إيمانه الراسخ باستقلالية الكلمة جلب له الشهرة والمكانة أينما حلّ، لكنه كلفه أن يظل دائما في حالة سباحة دائمة ضد كل الأنظمة الحاكمة، بداية من جمال عبدالناصر الذي كان يعشقه لدرجة القداسة، ورغم ذلك لم يمنعه الأمر أن يكون شجاعًا في تجاوز الخطوط الحمراء، ويتحدث من دون الالتزام بالضوابط التي حددها التلفزيون الرسمي للدولة، لكل الإعلاميين الذين يظهرون على شاشته، فانتقد رئيس الدولة في برنامجه “أقوال الصحف” وكانت النتيجة أن أبلغوه بأن “يستريح في منزله”، وهي جملة رمزية دلالتها الاستغناء عن خدماته.

لكنه بشجاعة لم تكن معهودة في إعلاميي جيله، توجه إلى مبني رئاسة الجمهورية وطلب مقابلة سامي شرف سكرتير الرئيس عبدالناصر للمعلومات وأبلغه أنه تعرض للإقصاء من برنامجه بسبب انتقاده، فهل يقبل عبدالناصر بهذا؟

على الفور جاءه الرد من الرئيس نفسه، بأن حذّر مسؤولي التلفزيون من أن يتعرضوا لقنديل وما يقوله، فعاد إلى برنامجه مكللا بجناحي طاووس، “مسنود” من رئيس الجمهورية، ما زاد من جرأته في الخوض في أمور شائكة، والتحدث بحرية كاملة، إلى أن أصبح برنامجه الأكثر رواجا في التلفزيون، حتى أنه تفوق على المسلسلات في ذلك الوقت.

ردّ قنديل الجميل لعبدالناصر حبّا وعشقا فاق الحدود المتعارف عليها، لدرجة بكائه بكاء مرّا خلال تعليقه على جنازة الرئيس جمال عبدالناصر في التلفزيون، حتى أطلق عليه البعض لقب “حمدي منديل” سخرية من كثرة بكائه المسموع.

تعلقه بالزعيم “أبو خالد” كما كان يلقبه، لأن ابنه الكبير كان يسمّى خالد ورحل قبل سنوات، دفعه للإقدام على خطوة مجنونة بعد وفاة عبدالناصر، حيث صارح خليفته أنور السادات، بأنه يرغب في ترك التلفزيون، لأنه لا يستطيع إذاعة نشرة أخبار تلفزيونية وينطق فيها اسم رئيس آخر لمصر غير عبدالناصر، فوافق السادات على رحيله عن التلفزيون، شاكرًا له شجاعته ومهنيّته.

يرحل قنديل مهاجرا بحريته المهنية إلي الإمارات وعلى أرضها أحسنت استضافته، وفتحت أمامه أبواب فضائية دبي ليواصل من خلالها تقديم ما أجبر على قطعه في القاهرة لكن جرأته جلبت للقناة الكثير من المشكلات

صوته حينما يتحدث مباشرًا لا تخطئه الأذن، حتى النظرة يختار منها التي تحمل من الإيحاءات والدلالات، ما يكشف إصراره على نقل المعلومة دون تزييف، فكان الإعلامي التلفزيوني الذي أنار كثيرا من الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية لمشاهديه، والمشاكس الذي كشف بعضًا من أسرار النخب الحاكمة، وبين هذا وذاك هو الرجل الذي يحمل الكثير من ذكريات المضايقات والحصار والإبعاد عن العديد من التلفزيونات العربية.

لقد توقفت جميع البرامج التي قدّمها على مدى تاريخه الإعلامي بشكل درامي، لكنه كان نزيهًا ولم يعتد المتاجرة بما تعرّض له من مضايقات، وإنما كان يرحل بهدوء دون أن يخوض في تفاصيل تكميم فمه عن الحديث، عاقدًا العزم على تقديم الكلمة من منبر إعلامي مغاير، لا يرتبط بحدود وطنه، لكن الأهم ألاّ يتوقف عن الكلام، ولا تؤثر عليه المضايقات مهما تجاوزت حدّ التهديد بوقف مسيرته إلى الأبد.

حكاياته مع المنع بدأت في مجموعة “راديو وتلفزيون العرب” التي كان قد اتفق مع مالكها الشيخ صالح كامل على تقديم برنامج “مع حمدي قنديل”، بعدما أجرى حوارا مع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي استمر ثلاث ساعات، تضمّن الكثير من تصريحات العقيد العابرة لكل التقاليد الدبلوماسية والبروتوكولية، وانتهي الأمر بالمقولة الشهيرة للشيخ صالح وهي أن “الجماعة غاضبين”، والتي فهمها قنديل بأن “الناس اللي فوق” لا يريدون استمرار البرنامج.

حتى بعد عودته إلى التلفزيون المصري مكبّلا بوعود حكومية غليظة للحفاظ على الهامش الذي يطلبه من الحرية المسؤولة لم يستمر الأمر طويلا، فقد اشترط على صفوت الشريف وزير إعلام حسني مبارك، ألاّ يتدخل أحد في السياسة التحريرية للبرنامج، الذي حمل اسم “رئيس التحرير”، في دلالة يفهمها أهل المهنة بأنه صاحب الكلمة الأخيرة ومتحرر من كل القيود.

بداخله مواقف ومبادئ لا تقبل المساومة

حتى شروطه بأن يختار بنفسه إعلانات البرنامج بما يتماشى مع مناخ البرنامج الوقور تمت الموافقة عليها، لكن النظام لم يستطع مجاراة جرأة هذا القنديل الذي صعد نجمه عاليًا في سماء تلفزيون الحكومة، خاصة بعد اقترابه من ملفّات شائكة، كانت عصيّة على آخرين، ما دفع بعض أجهزة الدولة للتضييق عليه، ومطالبته بعدم الخوض في بعض الأمور، إلى أن وصلت العلاقة بين الطرفين إلى مداها المحتوم، وهو منع البرنامج، بعدما أطلق قنديل العنان لنفسه في الهجوم اللاذع على الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ليرحل الرجل في صمت دون أن يفصح عن الأسباب الحقيقية.

قلم رصاص

من جديد تعرض برنامجه “قلم رصاص” على فضائية “دريم”، لنفس المنع بعدما تعارضت جرأته مع مصالح رجل الأعمال أحمد بهجت مالك الفضائية، فرحل مهاجرا بحريته المهنية إلى الإمارات التي أحسنت استضافته، وفتحت أمامه أبواب فضائية دبي ليواصل عبرها تقديم ما أجبر على قطعه في مصر، من خلال برنامج يحمل نفس اسم برنامجه في “دريم” أي “قلم رصاص”، وأيضا جلبت جرأته المتهورة للقناة الكثير من المشكلات، ما اضطرّها للتوقف عن تقديمه بعد سنوات ناجحة.

رحل قنديل إلى ليبيا لينقل تجربة دبي وتتكرّر معه النهاية نفسها مرة أخرى، ما حدا بالبعض أن يطلق عليه “الإعلامي الرحّالة” الذي طاف البلدان العربية بحثًا عن حرية الكلمة.

شارك في الحياة السياسية من خلال انضمامه كمتحدث إعلامي للجمعية الوطنية للتغيير، التي قام محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية المصري السابق بتأسيسها لقيادة حركة التغيير في مصر أواخر عهد مبارك، أيّد البرادعي ودافع عنه باستماتة، لكنه استقال من الجمعية عقب ثورة 25 يناير 2011 معتذرًا للشعب، ومعترضًا على تعامل البرادعي وإدارته للأحداث فيما بعد الثورة، رافضًا أن يتلوّث تاريخه بما يوصف بألاعيب السياسة، مثلما تلوّث تاريخ بعض كبار قادة ثورة يناير، الذين لم يسلموا من نقده لاحقًا.

تعلقه بالرئيس جمال عبدالناصر يدفعه للإقدام على خطوة مجنونة بعد وفاته، حين صارح خليفته أنور السادات، بأنه يرغب في ترك التلفزيون، فهو لن يستطيع إذاعة نشرة أخبار تلفزيونية فيها اسم رئيس آخر لمصر غير عبدالناصر

غياب قسري

أيّد التوجه الديمقراطي في بلاده بوصول مرشح الإخوان محمد مرسي لرئاسة البلاد، ثم ما لبث أن طالب برحيله، وشرح ذلك في مقال كتبه قبل رحيل مرسي قال فيه “هذه الجماعة ليس لها عهد، هي جماعة مراوغة، مناورة، لا تبتغى سوى صالحها، الكلام عن صالح مصر مجرد أكاذيب، هو تغطية لمؤامرة على مصر، نشهد تفاصيلها الآن ساعة بساعة، بخطوطها الممتدة إلى أميركا الملتبسة مع إسرائيل، وهى، قبل هذا وذاك، لا تملك شيئًا لتقدمه إلى مصر، لا المال ولا الخبرة ولا الدراية بشؤون الحكم.. جماعة خطرة على مصر وعلى الثورة بأهدافها السياسية وتوجّهاتها الاقتصادية اليمينية، وبقاؤها في سدة الحكم لعنة سوف تنتهي بكارثة.. هذه شهادتي أبرئ بها ذمتي”.

سرعان ما كرّر حمدي قنديل نفس السيناريو مع الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، فأيّده ثم عارضه، قبل أن يختار الغياب القسري عن المشهد الإعلامي المصري، لإيمانه بأن الإعلام برمّته يعمل في كنف النظام، أيّ نظام، يتسابق نحو التأييد دون أن تكون له رؤية أو كلمة حرة، ولا أمل في تغيير هذا الواقع الذي يعدّ السبب الأول في تخلّف هذا الإعلام.

المصارحة والمكاشفة التي تمثل جزءًا أصيلًا من شخصية حمدي قنديل في تعاملاته مع الآخرين، وإبداء آرائه المعارضة بشجاعة، جعلت منه إنسانًا متسقًا مع ذاته قبل أن يعرف الآخرون عنه ذلك، فهو الذي زامل السياسي المخضرم عمرو موسى في الدراسة لسنوات طويلة، وتربطه به علاقة صداقة طويلة الأمد. لكن ذلك لم يمنعه من أن يعلن بصراحة خلال الانتخابات الرئاسية عام 2012 التي كان موسى أحد مرشحيها، أن صوته “قنديل” سيكون لحمدين صباحي.

تظل حكايات قنديل، من ميلاده وحتى وقتنا الراهن، مع أهل السياسة والفن والإعلام تدور في فلك واحد يحمل عنوان الصمود والتحدي، ويحوي بداخله مواقف ومبادئ لا تقبل المساومة، ولا تعترف بالتلوين، فهو الذي قال عن نفسه في آخر مذكراته التي عنونها بـ”عشت مرتين” أنه عاش حياته طولًا وعرضًا، أخذا وردّا، فيها الأسى والانكسار والفشل، وفيها الصمود والحلم والإنجاز، وفيها من المفاجآت والمفارقات ما يعجز عن ابتداعه عتاة المؤلفين.

آثر الصدق وشجاعة الرصد، بالمرور بأحداث ومناسبات لا يزال شهودها على قيد الحياة، وكعادته نزيهًا لا يعرف طريق الانتقام أو التشفّي في الآخرين، رفض الخوض في سير مسؤولين سابقين لم يتورّعوا عن إيذائه، حينما كانت السلطة معهم، وفي مقدمتهم حسني مبارك، وفضّل أن تكون رواية حياته عن كونه شخصًا محظوظًا، مع أنه لم ينجب ولدًا، رغم زواجه من ثلاث نساء، آخرهن الفنانة نجلاء فتحي، التي يقف إلى جوارها في محنتها مع المرض حاليا.

13