رواية نسوية سودانية تعبث بالكاتب والقارئ والشخصيات

يصل قانون الريبة أي عدم التعيين، الذي صاغه عالم فيزياء الكم هايزنبرغ إلى نتيجة مفادها قصور المعرفة الإنسانية، وبأننا لا يمكن أن نتيقن بصورة كاملة وحتمية من خاصية فيزيائيّة ما بصورة حتميّة، من دون التأثير في باقي الخاصيات الأخرى، فاحتمالات الانفلات قائمة. لأنه لا توجد شروط مخبرية قياسيّة، أما في السرد وبالاعتماد على هذه الصيغة الفيزيائية البحتة يمكن مقاربة رواية “قافية الراوي” للكاتبة السودانية آن الصافي، الصادرة مؤخرا عن دار فضاءات، حيث تختبر هذه الأخيرة آلية الكتابة وسرد الحكاية، عبر تداخل الضمائر والشخصيات وعلاقة ذلك بالهوية والانتماء. لنجد أنفسنا أمام رواية تسائل الكاتب والقارئ والشخصيات.
تفترض الرواية أن الشخصيات لا تشبه راويتها، تنفصل عنها كليا وتتبدل أجناسها وضمائر السرد التي تحيل إليها (هي/ هو)، بل حتى نراها تنفلت من الحبكة لتمضي في حياتها الخاصة تاركة الراوية تدوّن فقط خيالات هذه الشخصيات وهواجسها. فهي أشبه بمخبري يدون ملاحظاته، ولا يلبث أن ينفلت هذا المخبري من صيغة التجربة المحكمة لينغمس في الحكاية ملوثا فضاء الرواية عموما بخيالاته.
هيولى الحكاية
السرد هنا يتجاوز صيغة توثيق الأحداث وتوصيفها في فضاء محدد، إذ يذهب نحو صيغة تمحو هذه الأحداث وتعيد تكوينها في كل لحظة، لتدخل في عوالم من كيمياء الزمن والفصام، وأحيانا اللامكان، إذ أن متابعة سير الحبكة في الرواية يستدعي الانفلات من قيود السرد التقليدية، فالراوي يتحرّر من الشخصيات كمسيّر لها، تاركا إياها تعيش فصامها، فجسد البطل وذواته تتمايز عن بعضها بعضا، وكلّ منها له خصوصيّة مختلفة.
نكتشف لاحقا في الحكاية أن هذا البطل نفسه هو موضوع للاختبار في بحث توثيقي عن الهوية، وما قرأناه عنه هو تدوين يقوم به شخص متخيّل آخر، وهو جيرمان، لنرى أنفسنا أمام مفهوم الريبة السابق، إذ أن محاولة تحديد سير كل شخصية تضيع القدرة على ملاحقة الباقي، وهذا حسب كاتبة الرواية نفسها، التي تقول إن الضمائر تغيب والشخصيات تتداخل جسدا ونصا، بل إن ترجمة الرواية ستغير الحكاية لغياب بعض الضمائر التي تحيل إلى جنس المتحدّث في بعض اللغات الأوروبية، فالشخصيات تختبر حيوات بعضها جسديا وعاطفيا، والمتخيل والواقعي يتداخلان لتحل الريبة حول حقيقة ما نقرأ، إذ تطالب الراوية القارئ بالتورط في هذا المتخيل والخروج من مرجعيات الواقع وبناه المتماسكة.
الشخصيات تختبر حيوات بعضها جسديا وعاطفيا، والمتخيل والواقعي يتداخلان لتحلّ الريبة حول حقيقة ما نقرأ
في الرواية نجد أنفسنا أمام مكعب، الحكاية تعيش في داخله، وكل وجه يقدم صيغة مختلفة لسرد القصة، لعبة الضمائر وتبدل الشخصيات تجعل الحكاية تختلف حسب الوجه، الذي يتم منه النظر إلى المكعب، وكل قراءة للرواية تعيد تشكيل المتخيّل الذي نقرأه، وهذا ما يرتبط بأزمة الانتماء التي تتناولها الراوية، وخصوصا العلاقات واختلاف الهويّات بين بلدان الـ“هنا/ الوطن” والـ“هناك/ الغرب”، إذ نرى التباين في القيم ومنظومة العلاقات، فالانتماء يتحوّل إلى آخر استهلاكي، انتماء إلى منتجات معلّبة ومظاهر سطحية، وإلى جانب محاولات الأفراد المضنية لتبني منظومة هذا الـ“هناك” القيمية في سبيل الاندماج فيه لتجاوز شعور الاغتراب الدائم.
الماضي يحضر في الرواية بوصفه تلك العلاقة الخفية بين الجسد الآن والذاكرة المتخيّلة عن جسد الآخر، فبطل الرواية، أو بصورة أدق جسد بطل الرواية يريد الزواج من ابنة جاره الفران في وطنه، بوصف هذا الحب هو الصيغة التي تحدد انتماءه للوطن، الذي غادره متنقلا بين بلدان مختلفة في سبيل مهنته التي انغمس فيها إلى النهاية، ليشكك بعدها في ذاته نفسها، بوعيه، هل هو يحلم أم يعيش الواقع؟
|
هذا الولاء لابنة الفرّان، وكجواب عن تساؤل البطل، تستغله الكاتبة في النهاية لتعلن عن مشاعرها تجاه البطل، بل وتدعوه إلى أن يعتبرها ابنة الفران، وكأن الكاتبة وبطلها يقرران الاستكانة إلى نفسيهما، الاستكانة إلى الحرية المطلقة بين الكاتبة وبطلها المحفّز الأول للكتابة، وكأن كل التجارب الجنسية والعاطفية التي مر بها البطل هي انحراف عن ذاك الأصل، عن ابنة الفران، بوصفها المحرك للرحيل، والثابت المتماسك في متغيرات الرواية، وكأننّا أمام نواة تدور حولها المكونات الذريّة/ السرديّة.
الكتابة والتسليع
تحمل الرواية حساسية عالية نحو تقنيات المجتمع المعاصر وطبيعة التغيرات السريعـة التي نمـر بهـا، والتي نراهـا انعكست على أسلوب السرد، فالكاتبة تخاطـب القارئ المعتاد على التصفح وعلى العبارات السريعة وتقارير الإعلام ولغة صفحات التواصل، وتلتمس منه أن يتحمل تقنية السرد هذه، لأن طبيعة العصر فرضت ذلك، وخصوصا العلاقة بين الجسد ومجتمع الاستهلاك، التي ولدت الفصامات المختلفة التي يعيشها البطل، فجسده يتحرك بمعزل عن ذواته الأخرى؛ ذاته كبطل، وذاته الغجرية، والشخوص الأخرى المحيطة به، وغيرها التي تنشأ فجأة، وكأن مخيلة كل من هذه الشخصيات في أقصى حريتها، تداعب جسد صاحبها وتنساق وراء نزواتها، التي هي نزواته أيضا، كروح تأخذ أشكالا متعددة، تتغير كطاقة، وتعبر المكان والزمان لتثبت خالص حضورها كجوهر حر، كجوهر يتجاوز الحكاية وحدود الجسد.