شريف مجدلاني: الفرنسية لغتي الأمّ والعربية لغتي الأب

يكتب شريف مجدلاني تاريخ المدينة، لتتحول الرواية عنده إلى إعادة إنتاج سردي للتاريخ، وثيقة معادلة لما هو رسمي بوصفها متخيلة إذ يرى هذا الأخير أن أحد أهداف الرواية هو إعادة كتابة التاريخ، ومنحه نظرة مختلفة عن تلك التي يوفرها السرد التاريخي الرسمي أو الخيال الجماعي، وبصورة خاصة جعله أكثر وضوحا. لكن لا يمكن لهذا التاريخ أن يصبح أكثر وضوحا إلا إذا تم سرده عبر سرد القدر الفردي للأشخاص الغائصين فيه وعبر الخيالات.
البيت والمرأة
العلاقة واضحة بين مجدلاني والمكان، بصورة أدق مع الأبنية؛ “فيلا نساء”، “سيد المرصد الأخير” حيث ينتقل بين فضاء الحميمية/ الداخل، وفضاء التاريخ/ الخارج، ونرى العلاقات الشخصية في الداخل تؤثر على ما يحدث في الخارج وكأن التاريخ محكوم بشخوص لا بأفكار، يفسّر مجدلاني هذه التساؤلات بقوله: صحيح أنّ كتبي كلّها تتحدّث عن أمكنة، وبيوت، وأحياء. لكنّ البيت هو أكثر من مجرّد فضاء، أو جدران.
البيت هو أيضا العشيرة، والعائلة، بالمعنى الواسع. معنى البيت بالعربية هو تماما كمعنى البيت باليونانية “أويكوس” الذي يشمل في الوقت نفسه السقف والعائلة التي يؤويها، ولكن بالمعنى الواسع، أي الأشخاص الذين تربطهم روابط الدم نفسه وينتمون إلى الجماعة العشائرية أو الطائفية نفسها. هذا هو الذي أتكلّم عنه بصورة خاصة. البيت، أو الحيّ، أي الأمكنة التي تتماهى معها العائلات.
الكتاب الناشئون من الهجرة يحملون معهم مشاكل بلد المنشأ، لا سيما العنف والبؤس اللذين حملاهم على الهروب
يضيف أن ما يهمّه هو شرح الطريقة التي تنشأ فيها العشيرة وعلاقتها بالفضاء، وبروز نخب عائلية وطائفية، وكيف تصبح هذه النخب سياسية وكيف تتطور، وبصورة خاصة كيف تنهار.
ويتابع الكاتب: تاريخ لبنان تكوّن حول العائلات الكبيرة، خاصة بزعمائها، الذين هم في الوقت نفسه زعماء الطوائف، التي لا أكفّ عن استطلاع سير عملها اليومي ومصيرها. لكن أقوم بذلك من الداخل، من الحميميّ، من المسار اليومي، لا من الخارج.
وأستمتع أيضا بتحليل كيفية مواجهة الأفراد، أو العائلات أو الطوائف لعنف التاريخ والتغيرات التي يأتي بها، وكيفية مرافقتهم لهذه التغيرات، أو بالعكس مقاومتهم لها، فيمكن أن يتعرّضوا للغرق في اضطراباتها.
حين سؤاله عن المرأة وعلاقته بها جسدا ونصا، يقول مجدلاني إنه عند نشر كتابيه الأوّلين سئل، لم لا توجد أي امرأة في ما يكتب؟ لكنه يؤكد أنها موجودة وتؤدّي دورا أساسيا، عبر إعطائها معنى لمؤسسات البشر، أو لكونها في قلب الأمور، كما في “سيد المرصد الأخير”، حيث تُمسك زوجة المأمور التي كان دورها في البداية ثانويا، بحبال اللعبة كلّها وتتلاعب بحياة عائلة كبيرة ومستقبلها.
|
كذلك في “فيلا النساء”، تتقمص المرأة دورا أكثر أهمية بوصفها تعوض في أوقات الذروة الرجل عند غيابه وتهتم بسير الأمور بدلا منه، كما يبرز أيضا وصف للحظة وعي من جانبها، فالمرأة متمسّكة بعائلتها وبعشيرتها، ومتعصّبة أحيانا أكثر من الرجل (كما نرى غالبا في العائلات السياسية، بل أيضا في عائلات أكثر تواضعا)، فهذه المرأة هي حارسة “دم” العائلة وشرفها، لكنها ستعي في النهاية أنّها مهمّشة، وأنّها تحبّ وتدافع عن مجتمع وبنية عائلية يقمعانها، أو يضحّيان بها لمصالح سياسية أو اقتصادية، ما سيدفعها إلى الانتفاض على هذا الوضع والحلم ويبرز ذلك من خلال اختفاء كلّ ما كرّست نفسها له.
اللغة والمهاجرون
مجدلاني يكتب بالفرنسية وتترجم رواياته إلى العربيّة، وبعيدا عن أسئلة المثاقفة والهويات الفرانكوفونيّة، لم لا يكتب بالعربيّة بوصفها لغة ومؤسسة؟ ألا يعني خيار الفرنسية أن مجدلاني رهين الترجمة كي يُقرأ في العالم العربي، حتى لو تمت الترجمة في وقت قصير؟
فوالدتي هي ابنة لمغتربين لبنانيين في مصر في بداية القرن العشرين، ولم يكن أمام لبنانيي مصر سوى خيار إرسال أولادهم إلى مدارس فرنسية، التي لا تعلّم العربية كما يجب.
ويضيف مجدلاني إنّه إن كان لا يكتب بالعربية فهو لا يكتب بالفرنسية أيضا. هو يكتب بلغته الخاصة ويستطرد الكاتب: اللغة، مهما كانت، هي مادّة يطبع المؤلّف عليها علامته، شخصيته، أسلوبه، ليصنع منها شيئا جديدا يكتسبه بشكل مطلق ويجعله ملكا له. لا يهمّ إذن إن كانت هذه المادّة هي الفرنسية أو العربية، بما أنّها في النهاية ستصبح ملكي. غالبا ما أُسأَل كيف أستطيع أن أعبّر عن العالم اللبناني انطلاقا من اللغة الفرنسية؟ أنا أستطيع ذلك لأنّ تلك الفرنسية ليست “الفرنسية” بأل التعريف بل هي فرنسيّتي “أنا”؛ لغتي الخاصة.
أحد أهداف الرواية إعادة كتابة التاريخ، ومنحه نظرة مختلفة عن تلك التي يوفرها السرد التاريخي الرسمي أو الخيال الجماعي
ألا يرى مجدلاني أن هذه الهويات المختلطة تفتح الباب على الاغتراب بوصف الفصام الذي قد يعيشه الكاتب بين “هناك والآن”، و”هنا والآن”، يجيب ضيفنا: أعتقد أنّ من يسمّون بكتّاب الاغتراب الذين يختارون الكتابة بلغة مختلفة عن لغتهم، سيقولون ما أقوله بالضبط. أي أنّهم لا يكتبون باللغة التي تعلّموها عندما هاجروا، بل إنّهم يجعلون من تلك اللغة لغتهم الخاصة.
تشهد المنطقة الآن أزمة تهجير وشتات، أكان مجدلاني يرى أن هذه التجارب في المنافي ستنتج هويات وتقنيات جديـدة للكتـابة؟ يعقب مجدلاني بقوله إن الأدب العالمي يتجدد بفضل التواصل والاختلاط، فأدب اللغات الأوروبية اغتنى بأعمال الكتّاب المهاجرين، طوال القرن العشرين، وهذا أمر يزداد اليوم أكثر فأكثر.
ويضيف: الكتّاب الناشئون من الهجرة يحملون معهم مشاكل بلد المنشأ، ولا سيما العنف والبؤس اللذين حملاهم على الهروب، ويفكّرون أيضا في إشكاليات المنفى وضرورة الاندماج.
ثقافة اللامكان المرتبطة بالتيارات الأصولية تنتشر الآن في المنطقة وتحاول إعادة تكوينها، فهل يرى مجدلاني أن الكتابة قادرة على الوقوف في وجه هذه التيارات والثقافة الماورائية؟ يقول الكاتب: إن الأدب والرواية بصورة خاصة يهدفان إلى ترتيب العالم ومنحه معنى.