عندما يختلط الخيال بالواقع.. تتحول الحياة إلى كابوس حقيقي

ترى كيف سيكون شكل العالم الذي نعيش فيه، إذا ما ألغينا الحاجز بين الخيال والإدراك الفعلي لحقيقة الأشياء؟ بمعنى؛ أن يتحول الخيال إلى شيء أشبه بالحقيقة التي نحاول أن ندركها باستخدام حواسنا المختلفة وبطريقة واعية أيضا.
الأربعاء 2015/12/23
لا أحد في مأمن من خلل التفكير

في سن الطفولة المبكرة، يمكن لطفلين في عمر الرابعة والثانية أن يستمتعا بلعبة متخيلة في إحدى الأدغال في حين تطاردهم الحيوانات المفترسة وتحاول الإمساك بهما، لكن وجهة نظر الطفل ذي الرابعة تختلف عن الذي يصغره في السن؛ حيث يستطيع الطفل الأكبر النظر إلى اللعبة كخيال غير حقيقي من خلال تمتعه بمستوى إدراكي معين في سلسلة من العمليات العقلية المتتابعة، في حين يختلط الأمر على الآخر الذي يحاول الإسراع للارتماء في حضن أمه خوفا من الحيوانات التي أصبحت واقعا يحاول افتراسه.

وهكذا، ومن خلال محاولة الأم تطمينه باقتناء بعض هذه الحيوانات كدمى والتعامل معها في إطار اللعب والمرح، فإنها في الحقيقة توفر له “المعادل النفسي” للتعامل مع الخيال الجامح وتحييد تأثيره السلبي على الواقع. عموما، تتكون في سن الثالثة تحديدا سلسلة من العمليات العقلية التي تدعى “الوظيفة العاكسة”، وهي الوعي الذي يساعد الإنسان على التمييز بين الخيال والحقيقة المدركة.

ويرى توم بون؛ وهو معالج نفسي أميركي، أن الضغط والتوتر النفسي من شأنهما أن يعطلا عمل “الوظيفة العاكسة” ما يعني أن يعود الإنسان أدراجه إلى مرحلة الطفولة المبكرة وتبني استراتيجياتها العقلية للتعامل مع أي طارئ جديد على طريقة “المعادل النفسي” البديلة، وبذلك يختلط لديه الخيال بالواقع.

تتكون في سن الثالثة سلسلة من العمليات العقلية، وهي الوعي الذي يساعد الإنسان في التمييز بين الخيال والحقيقة

يعتقد بون بأن أفضل مثال لهذا التراجع في الوعي، هي معاناة بعض الأشخاص من رهاب “فوبيا” الأماكن المغلقة وهو التوتر الذي من شأنه تعطيل “الوظيفة العاكسة” . وبفضل عمله كطيار على مدى ثلاثة عقود، تمكن بون من تطوير برنامج نفسي علاجي لمواجهة “رهاب” ركوب الطائرة والأماكن المغلقة عموما وما يصاحبه من مشاعر القلق والذعر التي يصاب بها بعض الأشخاص ممن يخشون الرحلات الجوية، مستخدما في ذلك نظرية “المعادل النفسي”.

ويعتقد المصابون بهذا الرهاب بأن تصوراتهم عن إمكانية سقوط الطائرة أمر واقعي، إذا يعمل الخوف على تعطيل قدرة الوعي في التمييز بين التخيّل والإدراك الحسي. ويورد بون مثالا عن أن قيادة السيارة (على الرغم من أنها وسيلة غير آمنة مقارنة بركوب الطائرة)، قد تمنح الأشخاص شعورا محسوسا بالأمان؛ فالشخص الذي يتخيل وقوع حادث سير مثلا بإمكانه أن يضع احتمالات للنجاة كأن يكون بمغادرة السيارة في أقرب فرصة والنجاة أو ربما في أحلك الاحتمالات، التعرض لإصابة خفيفة أو بليغة بحسب نوع الحادث، أما في حوادث الطائرات فإن أمل النجاة يكون معدوما في الغالب، وهكذا يتمكن الخيال من الإدراك بفعل عمل بعض الحواس باتجاه البحث عن المنطق، وهذا يشبه كثيرا خوف الطفل من الحيوانات المفترسة في الأدغال ومحاولته تطمين هذا الخوف بامتلاك دمى تشبهها فيحولها إلى لعب يمكنها أن تشاركه في السرير.

قبل أكثر من مئة عام، وجد اثنان من علماء النفس في جامعة هارفارد وهما جون دودسون وروبرت يركس، أن المستويات العالية من هورمون التوتر تؤدي إلى توقف العمل في بعض العمليات الذهنية؛ ولعل الحلقة الأضعف في هذا الإطار هي “الوظيفة العاكسة”، التي تساعد الإنسان على التمييز بين الخيال والحقيقة، وعندما ينخفض مستوى التوتر يستعيد قدرته على التمييز بين الاثنين.

المستويات العالية من هورمون التوتر تؤدي إلى توقف العمل في بعض العمليات الذهنية

ويرى عالم النفس البريطاني بيتر فوناجي؛ كبير الباحثين في المعهد الوطني البريطاني للأبحاث الطبية، أن الأشخاص الذين يمتلكون ثقة عالية بالنفس ليسوا بمأمن من حدوث هذا الخلل في التفكير، فهم عرضة للأفكار السلبية ولتوقف العمليات الذهنية في حالات التوتر شأنهم في ذلك شأن من يمتلكون مستويات متدنية من الثقة بالنفس، ويكاد يكون الفرق الوحيد في ذلك أن الشخص الذي يمتلك ثقة عالية بالنفس يلجأ إلى “المعادل النفسي” بصور أسرع لتطمين مخاوفه في حالات التوتر الشديد. وإذا ما طبقنا هذه النظرية على “فوبيا” ركوب الطائرات مثلا، فإن الشخص الذي يمتلك ثقة عالية بالنفس قد لا يمتلك أفكارا سلبية أقل من غيره، إلا أن تميزه في التعامل مع هذا الطارئ هو في قوة “الوظيفة العاكسة” لديه.

وعموما، فإن الخيال عندما يتم إسقاطه على الحقيقة وعندما يتحول إلى شبه واقع (من الناحية الذهنية) فهذا من شأنه أن يحوّل الحياة إلى كابوس حقيقي. هذا الخلط قد يحيل تجربة مثل الطيران إلى تهديد حقيقي للحياة؛ فأثناء الإقلاع تتوارد إلى ذهن المصاب بالفوبيا فكرة عدم تمكن الطيار من المضي قدما والارتفاع بالطائرة وقد يؤدي هذا إلى رجوعها إلى الأرض وتحطّمها، وعندما يتم تقليل قوة المحرك أثناء الطيران وتخفض تبعا لذلك الضوضاء فإن أول ما يخطر في ذهن المتخيل أن المحركات توقفت بسبب عطل ما، ولعل وصول القلق إلى هذه الدرجة من الخطورة قد يشكل تهديدا مباشرا للحياة؛ مع تسارع ضربات القلب الذي يتسبب في مراحل متقدمة في الإصابة بسكتة قلبية، كما أن التنفس بصورة سريعة وغير منتظمة قد يؤدي إلى الاختناق، فضلا عن أن هذا التغير غير المنطقي في الوعي الذاتي يفسر بأنه فقدان للسيطرة على العمليات الجسدية والنفسية.

21