تعصب الأسرة إلى معتقداتها يحيط أفرادها بالكراهية

استدعت الدوافع النفسية بصورة خاصة اهتمام الدراسات، إلى اعتبار أن الإنسان الفرد هو أساس لبذرة التطرف وبالتالي فهو السبب المباشر في استمرارها وتبلورها في صورتها القاتمة التي نطالعها اليوم في شتى الحوادث المؤسفة التي يذهب ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم، سوى تواجدهم في الزمان والمكان الخطأ.
يشير الدكتور كلارك ماكولي، أستاذ علم النفس ومدير مركز سولومون آش الأميركي للدراسات المتعلقة بالصراعات العرقية-السياسية، إلى أن بعض التنظيمات الإرهابية مثل (القاعدة) و(داعش)، تجاوزت كثيراً صفتها الظاهرية باعتبارها شكلاً من أشكال العنف والتطرف إلى كونها (علامة تجارية) رائجة، تقتضي التصدي لها بحرب من الأفكار لا تقل أهمية عن الحرب التي يخوضها العالم على أرض معارك حقيقية، ساحاتها في العراق وسوريا.
ويستثمر أفراد هذه التنظيمات الإرهابية في العادة مشاعر متنامية من الكراهية والحقد المطلق، لمحاربة كل من يختلف معهم في الاتجاه أو الرأي أو طريقة ممارسة الحياة، وهم يلوحون دائماً بـاستخدام (سيف) التطرف بوجه (الآخر) متمترسين داخل فقاعة من الوهم الذي يزين لهم أفعالهم ويزيل عنهم (في مرآة أنفسهم) أي شبهة.
بعض الإجابات التي خرجت بها الأبحاث النفسية مؤخراً تصدت لمسألة وجودية بحتة تتعلق بالخوف الغريزي من الموت، حيث يواجهها البعض بتبني حيل نفسية دفاعية لإنكار هذا الموت أو للتخفيف من آثاره للتخلص من هذا القلق الوجودي، فيأتي رد الفعل على شكل عزلة اختيارية ينظر الفرد من خلالها إلى (الآخر) الذي يختلف عنه عقائدياً باعتباره مصدر تهديد.
يؤكد الدكتور روبرت فايرستون، عالم نفس وكاتب أميركي، على أن الحرمان بشقيه المادي والعاطفي، هو حجر الأساس في تكوين مثل هذه الشخصية العدوانية التي تتغذى من الأوهام وتنصب العداء للآخر المسؤول بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن تعاستها وحرمانها، في الوقت الذي تبني فيه روابط عاطفية مع مجاميع تتشارك معها الهموم ذاتها، ثم يأتي في الغالب من هو على استعداد لتغذية هذا الوهم في نفوسهم.
عنصر التدمير الذاتي ينشأ بـالأساس في مرحلة الطفولة المبكرة بسبب تعرض الطفل للإهمال من قبل الأبوين
ومن خلال عمله كاستشاري وباحث في مؤسسة كليندن للأبحاث المتعلقة بالأفكار الذاتية المدمرة، الانتحار والعنف، يعتقد فايرستون بأن الأفراد الذين ينتمون إلى مثل هذه المجموعات المتطرفة يستخدمون الوهم باعتباره قاسماً مشتركاً فيعتبرون كل من كان في نطاق هذه المجموعة هو الجانب (النظيف) وكل ما كان خارجها هو الآخر (القذر) وبالتالي، وجب عليهم إبعاده للاحتفاظ بنقاء وجودهم المتخيل وهذا يعزز من شعورهم بالأمان.
وبذلك، فهم لا يترددون في توجيه كامل غضبهم وسخطهم على أي مصدر يشكل تهديداً أو مخالفة لعقائدهم هذه، والذي يترجم بدوره إلى كراهية مطلقة لمن يخالفها الرأي من (الغرباء) باعتبارهم مصدر تهديد، بالتالي فإن إنهاء وجوده يعد تعزيزاً لوهم الخلود ويجدونها مكافأة تليق بهم على التضحيات التي يقدمونها في سبيل ذلك.
وهناك أيضاً على مستوى اللاوعي، يقبع عنصر التدمير الذاتي الناتج عن شعور داخلي بعدم الجدارة، وهو ينشأ في الأساس في مرحلة الطفولة المبكرة بسبب تعرض الطفل للإهمال من قبل الأبوين بسبب الجهل غير المقصود أو بدافع عدواني مقصود، الأمر الذي يضطر الطفل إلى تبني خيال تعويضي يتناسب مع درجة معاناته ويصلح كبديل عن مشاعر مبتورة أو ممنوعة في الواقع.
ولعل أكبر تهديد يمكن أن يواجهه الطفل هو شعوره بأنه مكروه أو غير مرحب به من قبل والديه، فيترجم بصورة خاطئة إلى شعور بتدني مستوى الذات فيصب جام غضبه عليها وقد يصل هذا الغضب في أقصى مراحله إلى حالة الانتحار، أو بتوجيه غضبه هذا كعدوان على الآخرين وهي حالة دفاع شرعي عن الوجود ووسيلة لمواجهة الصدمة النفسية كما يراها هذا الطفل. مستقبلاً، تهيئ هذه القاعدة من القلق والعدوان والحرمان أرضية خصبة لتوجيه اللوم إلى المجتمع ككل بصيغة أفعال انتقامية.
إلا أن الجانب الأسري يبدو تأثيره أكثر وضوحاً في ما يتعلق بالمعتقدات الدينية؛ فالأسرة التي تنظر إلى قيمها ومعتقداتها وعاداتها باعتبارها الأفضل والأصح في المطلق، وتسفه ما عداها، تتحمل المسؤولية الكاملة في تعزيز الأحكام المسبقة تجاه الآخرين وتبني الآراء العنصرية لتحيط أفرادها ببيئة مشوهة قوامها كره الآخر والتطرف في السلوك تجاه كل ما هو مخالف، فيتوسع هذا التطرف ليشمل عدائية واضحة ضد المجموعات التي تبدو مخالفة في العرق والدين والتوجه الثقافي، الظاهرة التي تعد مقدمة محتملة لأشكال قمعية خطيرة.
ويعتقد فايرستون بأن فكرة التصدي لمثل هذا السلوك التدميري القاتل لا يمكن أن تكون فكرة ناضجة بما فيه الكفاية، إذا لم يتم معها اعتماد منهج عقلاني يبحث في أسباب نشوئه وتطوره وارتباطه بمراحل العمر المختلفة والتجارب الشخصية والظروف الاجتماعية والأهم من ذلك، البيئة الحاضنة له.