جمال الغيطاني روائي عارض كل رؤساء مصر ووقع في غرام الجيش

الأحد 2015/10/25
جمال الغيطاني مراسل حربي مات وهو يتباهى بأن دماء عروقه بلون الزي العسكري

القاهرة - من يتأمل حياة الروائي المصري الكبير جمال الغيطاني يلمس فيها العديد من المفارقات، فقد التحق بالعمل في الصحافة بسبب رواية له نالت إعجاب الكاتب محمود أمين العالم الذي كان وقتها في نهاية الستينات من القرن الماضي رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم.

في المقابل، كان لعمله كمراسل عسكري للجريدة في فترة حرب الاستنزاف وحتى نصر أكتوبر 1973 دور كبير في شهرته الأدبية، بعد أن نجح في لفت الأنظار بقوة إلى الجانب الإنساني في المعارك والجنود عبر ما كان يسطره قلمه طوال فترة عمله على الجبهة بين عامي 1969 و1974 في صحيفة الأخبار المصرية.

لكن وسط المفارقات المتعددة كانت هناك حقيقة واحدة ثابتة في عقيدته الحياتية هي ارتباطه الوثيق وإيمانه الذي لا حدود له بوطنية وعظمة الجيش المصري فيما بدا أنه حب متبادل.

الغيطاني الذي اختار له القدر أن يرحل عن عالمنا قبل أيام، في الذكرى الثانية والأربعين لمعركة العزة والكرامة، اعتاد أن يقول متباهيا بعلاقته مع القوات المسلحة “لو سمح المجاز لي، سأقول إن دمائي التي تسري في عروقي كاكية اللون (لون زي الجيش المصري)، فإيماني بالعسكرية المصرية مطلق وبغير حدود”.

وقد حمل البيان الذي أصدرته القوات المسلحة لنعي الكاتب الراحل، في واحدة من المرات النادرة التي يصدر فيها الجيش المصري بيانا مماثلا، مشاعر حزن نبيلة بين سطوره، تتجاوز رسميات العزاء المتعارف عليها لتعكس إدراكا واعيا لما قدمه الغيطاني بقلمه من خدمات للوطن وحرّاسه.

كلمات البيان يشعر من يقرأها بصدق مشاعر من كتبها، سواء عندما توقف عند مفارقة أن روح الأديب المحارب، كما وصفه، أبت إلا أن تلحق برفاقها المقاتلين وفي الشهر نفسه شهادة له بصدق النية واستجابة -ربما- لدعواته عندما سطّر أروع كتاباته من على خط النار عن شهدائنا

في أكتوبر، وتمنى أن يلحق بهم، أو عندما اختار أن يختم بعبارة قاطعة تقول إن “الرجال أمثال جمال الغيطاني ترحل ولا تموت” وهي عبارة تستخدم عادة في نعي القادة العسكريين.

تصوف أدبي

الكتابة العابرة عن علاقة الغيطاني بالجيش، قد تتوقف عند الكثير من الهوامش أو المظاهر البعيدة عن الواقع، لكن قراءة أكثر تعمقا لفترة عمله كمراسل وكتاباته عن حصيلة ما اختزنته ذاكرته من تلك الفترة تقود إلى تفهم حالة التماهي الكاملة بين الأديب والعسكري.

فهو رأى خلال تلك الفترة الموت والحياة في صورتهما البدائية، فمكنه ذلك من الارتحال عبر آلاف السنين، متجاوزا العديد من مراحل تطوّر البشرية، وكان ذلك الارتحال، في ما بدا لاحقا، هو خطوته الأولى نحو التصوّف الأدبي الذي سيميّز رواياته فيما بعد ويخلق منه نمطه الفريد الذي كان عليه.

تشاؤمه المبكر في وقت كان فيه المصريون منتعشين بالأمل عقب نجاحهم في إسقاط نظام مبارك، يفسره الغيطاني بأن مشهد يوسف القرضاوي الهرم المخرف، وهو يحرض على الجيش المصري والحضور البارز للإرهابي عاصم عبدالماجد الذي قتل 122 جنديا، جعلاه يوقن بأن الثورة تم اختطافها

خلال تلك الفترة أيضا، وجد أعظم المكنونات البشرية في الجنود البسطاء الرابضين على الجبهة، ينتظرون الموت بنفس البساطة التي يقبلون بها على الحياة مع إشراقة كل صباح، أدرك أن الحقيقة الكاملة التي ينفق الكثيرون أعمارهم في البحث عنها دون جدوى موجودة في روح كل جندي مصري قضى أجمل أيّام شبابه داخل خندق لا صديق له سوى سلاحه وكتابه المقدس، سواء كان قرآنا أم إنجيلا.

ورغم أن الغيطاني عاش الموت طوال سنوات تجنيده الخمس بالقوات المسلحة المصرية، إلا أن موقفا واحدا ظل مسيطرا على تفكيره طوال 42 عاما الماضية، الموقف حدث في أحد أيام حرب الاستنزاف، نهاية ستينات القرن الماضي، في المقهى الوحيد بمدينة السويس التي كان قد تمّ تهجير سكانها عقب نكسة يونيو 1967 مثلما حدث مع سكان مدينتي الإسماعيلية وبورسعيد وهي المحافظات الثلاث المطلة على قناة السويس.

في ذلك اليوم ذهب إلى المقهى متأخرا، فلم يجد سوى مقعد بلا ظهر، فجلس عليه مستسلما، حتى قام جندي إطفائي من مقعد مواجه له، وأصر عليه أن يتبادلا مكانيهما، وعندما حاول الغيطاني الاعتذار فوجئ بالرجل يسحبه تقريبا من يديه ليجلسه مكانه.

وما هي إلا لحظات حتى فوجئ كل من في المقهى بالرجل يسقط مكانه دون حراك، فهرع الجميع وبينهم الغيطاني نحوه لاكتشاف ما حدث ليجدوه قد فارق الحياة، ولاحظوا نزيفا خلف أذنه فعرفوا أن رصاصة إسرائيلية خائنة اخترقت رأسه لتفجّر مخه.

هذا الحادث الذي كان يفترض أن يكون الغيطاني ضحيته، لولا شهامة الجندي البسيط، أجبره على التوقف أمام العديد من حقائق الحياة والقدر، وزاد ارتباطه بالجيش ورجاله حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيدي عدد منهم داخل مستشفى الجلاء العسكري.

جنرال الرواية

التواصل الإنساني المميز ترك أثره على مواقف الغيطاني وآرائه السياسية في ما بعد، ورسّخ داخله قناعة تصل إلى درجة الإيمان أن الجيش المصري العمود الفقري للدولة المصرية، هو مؤسسة حضارية وليست عسكرية فقط، وتراث وطني طويل جدًا منذ عصور الفراعنة، وهي قناعة جعلت حكمه على أيّ رمز أو زعيم سياسي مبنيا على موقف هذا الرمز من الجيش المصري، يهاجم من ينتقدون القوات المسلحة، مثلما فعل مع محمد البرادعي، مدير وكالة الطاقة الذرية سابقا، ونائب رئيس الجمهورية المصري السابق، الذي قال عنه: لو كان ثائرا حقيقيا لأصبح مثل سعد زغلول أيقونة للثورة المصرية وزعيما لها، لكنه بدأ يهاجم مؤسسات الدولة فنفرت منه الجماهير.

الغيطاني يعلق على اعتلاء القرضاوي لمنصة التحرير بيوم أسود على مصر

كذلك هاجم عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، ورئيس لجنة الخمسين التي أعدت الدستور المصري الجديد، وانتقده بقسوة محمّلا إياه مسؤولية تراجع الآمال عقب ثورة 30 يونيو 2013، لأنه أراد عمل دستور يناسب ذاته المتضخمة، ويتيح له (إذا قدر له أن يصبح رئيسا للبرلمان) أن يمتلك صلاحيات تفوق تلك التي يتمتع بها الرئيس المصري.

لم يخف الغيطاني امتنانه البالغ للجيش وقائده (رئيس الجمهورية فيما بعد) عبدالفتاح السيسي للدور الذي لعبه خلال ثورة 30 يونيو من أجل إعادة مصر التي اختطفتها جماعة الإخوان، فالروائي الذي عاش دائما على يسار أيّ نظام سياسي تعاقب على حكم مصر، كان عداؤه الأبرز لجماعة الاخوان التي كان يراها تنظيما أجنبيا اعتبر توليه لحكم مصر بمثابة الاحتلال، وأن وصول جماعة الإخوان إلى سدة الحكم ليس هزيمة لحسني مبارك إنما للدولة المصرية الحديثة التي بناها محمد علي باشا قبل حوالي مائتي عام.

تأججت حالة العداء بعد أن استقبل نجاح الرئيس الأسبق محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية صيف عام 2012 بمقال انتشر وقتها على نطاق واسع بعنوان “وداعا مصر التي نعرفها” نعى فيه التعددية والليبرالية وغيرها من السمات التي تجذرت في المجتمع المصري على مدى آلاف السنين.

الحرب مع الإخوان

صدامه الأول مع الجماعة حدث خلال أول تظاهرة عقب تنحّي مبارك حين اعتلى الشيخ يوسف القرضاوي منصة ميدان التحرير ليحرّض على الجيش والمجلس العسكري الذي كان يدير الفترة الانتقالية، وقتها علّق الغيطاني على المشهد لإحدى الفضائيات معتبرا أن ذلك يوم أسود على مصر.

في تفسيره لتشاؤمه المبكّر في وقت كان المصريون فيه منتعشين بالأمل والتفاؤل بالمستقبل عقب نجاحهم في إسقاط نظام مبارك، قال الغيطاني إن “مشهد القرضاوي وهو رجل هرم مخرّف، يحرّض على الجيش المصري وسط تصفيق أعضاء الجماعة الذين رموا شباب الثورة من على المنصة، والحضور البارز للإرهابي عاصم عبدالماجد الذي قتل 122 جنديا مصريا عام 1981 جعلني أوقن بأن الثورة تم اختطافها”.

العداء الطويل بين الروائي الراحل والإخوان دفع العديد من المواقع المحسوبة عليهم للتشفي في موته متجاهلين ما أمرنا به ديننا الإسلامي من أنه لا شماتة في الموت، وكتب الكثيرون تعليقات من عينة “في ستين داهية وعقبال كل الكتّاب الفاسدين” و”الحمد لله الذي جعلنا نرى هلاك هؤلاء الظالمين”.

الغيطاني يفترض أن يكون قد راح ضحية رصاصة طائشة، وشهامة جندي بسيط أجبرته على أن يقف أمام العديد من حقائق الحياة والقدر، ما زاد من ارتباطه بالجيش ورجاله، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيدي عدد منهم داخل مستشفى الجلاء العسكري

معارض دائم

ما أغفله أعضاء جماعة الإخوان والمتعاطفون معها، أن عداء جمال الغيطاني لهم كان مبنيا على منطلقات دينية وإنسانية تخشى من ثقافة التخلف والراغبين في إعادة مصر إلى الوراء، حيث كان يرى أن التخلف مفتاح المآسي الموجودة الآن في الساحة العربية، وهو السبب الذي يعطي الغرب وأحفاد الاستعمار فرصة للتدخل، ومحاولة فرض المفاهيم أو الوجود، وهو تخوف كان يعتقد أن الفرصة الوحيدة لدفعه عبر إيجاد مجددين شجعان يدخلون بنا إلى صميم العصر، وإلا سيكون المصير مخيفاً.

المؤكد أن الغيطاني لم يبن مواقفه يوما ما انطلاقا من فساد أو بناء على مصلحة شخصية، خاصة أنه لم يجمع ثروة مثلا في حياته تدفع الناس للتساؤل عن مصدرها، ولا كان ربيبا لأيّ حاكم أو نظام سياسي تعاقب على حكم مصر.

عارض الغيطاني جمال عبدالناصر ودخل السجن ستة أشهر تقريبا في العام 1966 بسبب انتمائه لتنظيم ماركسي، رغم أنه لم يكن يخفي حبه للزعيم الراحل وحزنه على رحيله، وهو حب تجاوز علاقة الرئيس بواحد من أبناء شعبه إلى مشاعر صوفية متداخلة، فقد وصف عبدالناصر في تصريح له بأن العيد لم يكن يكتمل إلا برؤيته، حيث كان يصلّي العيد في مسجد الحسين، وكان الغيطاني من سكان منطقة الجمالية القريب من الحسين في حي يعرف بالقاهرة الفاطمية، فكان يخرج مع أقرانه من الأطفال “لكي نقابله ونراه فجمال عبدالناصر لن يتكرر”، كما يقول.

حتى انتقادات الغيطاني لعبدالناصر تعكس مشاعره الصوفية له، فهو يرى أن الرجل أحد مآسي العالم العربي، لأنه بعد رحيله تصور حكّام بعض الأقطار العربية أنه يمكنهم أن يصبحوا جمال عبدالناصر، ونسوا أنه محصلة تاريخ وجغرافيا، يعني لو وجد في العراق لم يكن سيصبح هو عبدالناصر الذي عرفته مصر.

على العكس من ذلك كان موقفه من الرئيس الراحل أنور السادات الذي لم يتعرض للأذى في عهده، لكنه اعتبر أن فترة حكمه مسؤولة عن كل ما حاق بالبلاد من فساد وخراب.

ضيق الروائي الراحل بسياسات السادات انعكس في العديد من كتاباته، ومنها ما ذكره في رواية “رسالة البصائر في المصائر” على لسان الراوي الذي يجسده هو، حيث قال واصفا فترة حكم السادات “اعلموا أن ما مر بنا ثقيل، وأن ما عرفناه مضنٍ، وما قاسيناه صعب، مرٌّ، هذه السبعينيات من زماننا الكدر عَقد انقلاب أحوال، وأمور غريبة، وبلايا ثقيلة، وتحولات شملت جُلَّ القوم، كذا ما تلاها، وقد عاينتُ ذلك، قاسيته تضاعف همي، ناء وقتي بما عرفته”.

في لقاء متلفز في بداية الألفية الثالثة قال الغيطاني مفسرا موقفه المتناقض من الرئيسين الراحلين “مع عبدالناصر كنت تختلف على نفس الأرضية، وخلاف مع فتوّة عادل كبير وجميل، لكن مع أنور السادات، أنا مرّت عليّ أيام في حكمه كانت أسوأ من أيام المعتقل أيام عبدالناصر”.

رحل جنرال الرواية العربية، كما أطلق عليه بعض المقربين منه، بسبب حبه للمؤسسة العسكرية المصرية، وإبداعه الأدبي، الذي تميز بطعم خاص، برع فيه باقتدار، وهو ما سيجعله في ذاكرة المصريين والعرب بمثابة "الميت الحاضر".

9