ميشيل بلاتيني مايكل كورليوني كرة القدم العالمية

في المشهد الأخير من الجزء الأول لفيلم “العراب” يقرر الشاب مايكل بعد توليه رئاسة عائلة كورليوني إحدى عائلات المافيا الإيطالية في أميركا عقب وفاة والده التخلص من كل رؤساء العائلات الأخرى، بعدما أدرك بذكائه أنه لن يستطيع فرض هيبته في سوق العصابات في وجودهم باعتباره في عمر أبنائهم، ويختتم الفيلم بمشاهد متتابعة لاغتيال هؤلاء بينما مايكل يحتفل بتعميد ابنه، وفي نفس الوقت ترسيخ مكانته كزعيم جديد للمافيا.
الرسالة التي حملها المشهد السينمائي الذي أبدع في تقديمه المخرج الإيطالي فرانسيس كوبولا والممثل صاحب الأصول الايطالية أيضا آل باتشينو، رسخت في أذهان العديد ممّن شاهدوا الفيلم، ويبدو أن من بينهم ميشيل بلاتيني رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ونجم الكرة الفرنسية السابق الذي ينتمي أيضا لأصول إيطالية في مفارقة نادرة.
الساحر الفرنسي الذي لقب في الثمانينات من القرن العشرين بملك الوسط، وعبقري الكرات اللولبية لطريقته البارعة في تسديد الضربات الحرة المباشرة على حدود منطقة جزاء الفرق المنافسة بطريقة لولبية، كان يتميز بها لاعبو أميركا الجنوبية عن اللاعبين الأوروبيين، أدار العديد من المعارك داخل الفيفا على مدى ما يقرب من 16 عاما بطريقة جهنمية كفلت له إحراق كل منافسيه واحدا تلو الآخر، ليبقى زعيما أوحد للكرة العالمية، وجعلت ترشحه لخوض انتخابات رئاسة الاتحاد الدولي الذي أعلن عنه مؤخرا يبدو وكأنه تحقيق لرغبة كثيرين في إصلاح حال بيت الفيفا الزجاجي الذي تهشمت أغلب جدرانه، بدلا من حقيقة أن الترشح طموح شخصي سعى إليه بلاتيني طوال سنوات طويلة وأراق على محرابه العديد من القرابين الشخصية والأخلاقية والمهنية.
الأخوة الأعداء
بلاتيني يعرف أنه أخفق ذات مرة في الفوز بكأس العالم كلاعب، لكنه هذه المرة لا يفرط بقدرته الفذة على خداع العالم وإقناعه بأن أخطاءه هي في حقيقة الأمر مزايا
مرة أخرى إلى السينما والأدب، فالعنوان المقتبس من فيلم يعد تمصيرا لرائعة الأديب الروسي فيودور ديستوفسكي “الأخوة كرامازوف” يبدو مناسبا جدا لوصف علاقة بلاتيني بأستاذه وحليفه السابق بلاتر، فقد صنع الفرنسي مجده الإداري في الكرة العالمية من خلال صداقته العميقة بالسويسري الداهية في نهايات القرن الماضي، حيث وقفا في نفس الخندق لإدارة كل مؤامرات بلاتر لإقصاء منافسيه سواء المباشرين أو المحتملين من الساحة الكروية، وكان بلاتيني بوجهه الطفولي البريء يؤدي دورا بالغ الأهمية في تجميل وجه السويسري أمام رؤساء الاتحادات الكروية المحلية قبل كل انتخابات، وتشويه وجوه منافسيه بداية من السويدي لينارت يوهانسون رئيس الاتحاد الأوروبي السابق الذي ترشح أمام بلاتر على رئاسة الفيفا في انتخابات 1998، مرورا بالكاميروني عيسى حياتو رئيس الاتحاد الأفريقي في انتخابات 2002، ثم القطري محمد بن همام في انتخابات 2011 قبل انسحابه.
والمفارقة التي لا ندري هل تثير الشفقة أم السخرية أن بلاتر الذي يشك في أصبع قدمه، لم يتوقع أن تأتيه الخيانة من أقرب المقربين إليه، الفرنسي ملك الكرات اللولبية الذي طورها لاحقا إلى سياسات لولبية بفضل ما تعلمه من بلاتر نفسه، فقد كان الاتفاق غير المعلن بين الاثنين أن يكتفي بلاتيني بدور اليد اليمنى لرئيس الفيفا، مقابل أن يدعم الأخير توليه رئاسة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ثاني أهم منظمة كروية في العالم بعد الفيفا.
بقية الاتفاق أن يحصل بلاتيني على دعم بلاتر لخلافته في الاتحاد الدولي عندما يقرر الأخير التنحي عن المشهد الكروي، لكن ما جرى في العلن هو انقلاب الفرنسي على أستاذه قبل الانتخابات الأخيرة وهجومه السافر ضده في كل محفل، بل ودعم منافسه الأبرز الأمير الأردني علي بن الحسين.
خلف الكواليس قبعت الأسباب الحقيقية للخلاف بين حليفي الماضي، أولها أن بلاتر كان قد وعد بلاتيني بأن تكون الدورة الماضية التي بدأت في 2011 هي الأخيرة له، على أن يدعمه في انتخابات 2015، لكن العجوز السويسري لم يستطع مقاومة إغراء البقاء رئيسا لجمهورية كرة القدم العالمية، فأخلّ بوعده وقرر الترشح مجددا، الأمر الذي أثار تبرّم بلاتيني الذي كان يرى أن الدورة الحالية هي فرصته المثالية لعدة أسباب منها عدم وجود منافسين أقوياء من عيّنة الكاميروني حياتو أو السويدي يوهانسون أو القطري بن همام الذين يمكن أن يهددوا فرصته في الفوز، كما أنه بلغ في يونيو الماضي عامه الحادي والستين (من مواليد 21 يونيو 1954) ما يعني أن انتظار 4 سنوات أخرى سيقلص طموحه في البقاء فترة طويلة على رأس الفيفا، وربما يتبخر الحلم كليا إذا استمر ضعف بلاتر أمام غرامه بالمقعد الوثير.
كذلك فإن بلاتيني يعيش حاليا أزهى أوقاته الإدارية بعد النجاحات التي تحققها البطولات الأوروبية المختلفة، ونجاحه في كسب ود رؤساء أكبر أندية أوروبا، ما يجعل منه مرشحا مثاليا للمنصب الكبير.
أم الفضائح
بلاتيني يتباهى بالمجد الإداري الذي صنعه في الكرة العالمية من خلال صداقته مع بلاتر ثم لا يتردد في الانقلاب عليه عندما يدرك اقتراب نهايته
يبقى أبرز الأسباب يقين الفرنسي بأن خصوم بلاتر آخذون في الازدياد كمّا بارتفاع أعدادهم، وكيفا بدخول دول ومؤسسات كبرى ساحة الحرب ضد بلاتر، خاصة بعد تمثيلية التصويت على تنظيم مونديالي 2018 في روسيا، و2022 في قطر التي يحلو للبعض أن يطلق عليها لقب “أم الفضائح” نسبة إلى التسمية التي أطلقها صدام حسين على معركته ضد قوات التحالف الدولي حرب الخليج الثانية في 1991.
أدرك بلاتيني بذكاء صانع اللعب الذي يملك القدرة على كشف الملعب والتنبؤ بتحركات الخصوم أن نهاية بلاتر اقتربت، وكان عليه الاختيار بين الاستمرار في نفس الخندق وتلقّي رصاصات الأعداء بدلا من السويسري كُرمى للأيام الخوالي، أو تسليم بلاتر لخصومه مقابل البقاء حيا، وربما الحصول على مكافأة أيضا.
كما كان متوقعا لمن يعرفون بلاتيني لم يكن القرار صعبا، ربما لأن تحالفه مع بلاتر من الأساس عُقد على أسس انتهازية محضة ليس للأخلاق أيّ دور فيها، فكان التحول الكبير للفرنسي من صفوف الأصدقاء إلى خانة الأعداء، آملا أن تنتهي المعركة بموت بلاتر نفسه ودفن أسراره غير الأخلاقية معه، في تقمص ناجح لشخصية مايكل كورليوني مجددا عندما قرر التخلص من شقيقه فريدو بعدما اكتشف أنه يتآمر عليه.
أفضل ممرر و"مبرر"
بين أعوام 1983 و1985 نال بلاتيني جائزة أفضل لاعب في أوروبا ثلاث مرات متتالية كأول لاعب أوروبي ينال هذا الشرف، وذلك بعدما تميز بقدراته الهائلة على كشف الملعب وتوقّع تحركات المدافعين الخصوم ليباغتهم بتمريراته الساحرة وتسديداته اللولبية محققا لفريقه الانتصار.
بعد اعتزاله سخّر بلاتيني بفضل قدرته على كشف الملعب وتوقع تحركات الخصوم، إلى جانب مهاراته اللولبية ليرتقي سلم الإدارة الكروية بنجاح منقطع النظير توّجه برئاسة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عام 2007، بانتظار التتويج الأهم برئاسة الفيفا في الانتخابات المقرر أن تجري في فبراير المقبل. ومن المفارقات أن بلاتيني الذي تذوق مرارة إخفاقه في الفوز بكأس العالم كلاعب، لديه قدرة فذة على خداع العالم، وإقناعه بأن الأخطاء التي يراها الجميع هي في حقيقة الأمر مزايا.
فعل هذا لأول مرة حين حقق فشلا ذريعا كمدرب لمنتخب بلاده في بداية توليه المهمة نهاية عام 1988 بعدما فشل في التأهل لنهائيات مونديال 1990 بإيطاليا، وفي نهايتها حينما خرج من الدور الأول لنهائيات أمم أوروبا عام 1992 رغم أنه دخل البطولة وهو مرشح أول للفوز بها، وبلاتيني نفسه مرشح للقب مدرّب العام في أوروبا.
وقتها لم يقدم الساحر أسبابا مقنعة لتحول مستوى الديوك وهو لقب المنتخب الفرنسي من القاع إلى القمة والعكس، وفشله كمدرب في ضبط إيقاع لاعبيه، واكتفى بتقديم استقالته من منصبه لسبب يصلح ليكون “إفّيه” في فيلم كوميدي هو أنه اكتشف بعد أقل من 4 سنوات بقليل عمل فيها مدربا أنه لا يجد نفسه في هذه المهنة!
بعد اعتزاله يسخر بلاتيني قدرته على كشف الملعب وتوقع تحركات الخصوم، إلى جانب مهاراته اللولبية ليرتقي سلم الإدارة الكروية بنجاح منقطع النظير توجه برئاسة الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عام 2007
هذه القدرة على الإقناع أفادته جدا في تخطي أزمة فساد الفيفا التي كان أحد الضالعين فيها بقوة، فكان تغير موقفه التكتيكي من حليفه التاريخي جوزيف بلاتر دخلا مناسبا جدا لتحوله من مشارك في كل جرائم السويسري إلى شاهد عليها، ولم يملك ساحر الملعب أيّ ذرّة خجل وهو يطل على العالم بوجهه الطفولي ليقول إن سلسلة الفضائح الأخيرة التي طالت الفيفا تصيبه بالغثيان، كأنه لم يكن طرفا فيها كونه أحد المقربين جدا من بلاتر لمدة زادت على 16 عاما.
كذلك لم يشرح بلاتيني الأسباب التي دعته للتصويت لملف قطر الذي فاز بتنظيم مونديال 2022، رغم علمه بأن البطولة ستقام في صيف الدولة الخليجية الخانق الذي لا يمكن لعب الكرة فيه مثلما قال هو نفسه لاحقا عندما قرر أن يمتطي موجة الانتقادات للفيفا بدلا من التحلي بأخلاق الفرسان والاعتراف بأنه كان شخصيا أحد الشركاء الكبار في فسادها، وأنه قام بالتصويت لقطر في صفقة سياسية لعب دورا فيها من أجل أن يحظى بثقة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي.
الطريف أن أحدا من حلفائه في الاتحادات القارية الأربعة التي أعلنت تأييدها له وهي آسيا وأميركا الجنوبية وأوروبا والكونكاكاف لم يشغل نفسه بالبحث عن أسباب تغيّر موقف بلاتيني من رفض الترشح لنفس المنصب في سبتمبر من العام الماضي، حينما صرح أنه لن يترشح، لأنه بحسب ما قال حرفيا “لم يكمل مهمته القارية بعد وأن أمامه الكثير من الأمور التي يجب تنفيذها”، إلى السعي للفوز برئاسة الفيفا بعد أقل من 11 شهرا بقوله إنه “في بعض الأوقات يفرض عليك القدر اتخاذ قرار بهذه الأهمية، وربما قد أكون بلغت هذه اللحظة الحاسمة”، فهل أنجز الفرنسي خلال أقل من عام كل هذه الأمور الكثيرة التي كان يتوجب عليه إنجازها في الاتحاد الأوروبي ليتفرغ لإدارة الفيفا؟ وهل بلغ لحظته الحاسمة خلال تلك الفترة البسيطة؟
الوصف الوحيد الذي يمكن أن يلخّص شخصية بلاتيني جاء على لسان الكوري الجنوبي تشونج مونج الذي شغل لسنوات طويلة منصب نائب رئيس الفيفا عن قارة آسيا، ويستعد حاليا للترشح في انتخابات الرئاسة التي ستجرى في فبراير المقبل.
تشونج الذي يعتبر بدوره أحد أذرع بلاتر الفاسدة في القارة الصفراء، قال معلقا على موقف بلاتيني من رئيس الفيفا وكذلك رغبته في الترشح بقوله “بلاتيني.. إنه ‘ملوّث’ بشكل قاتل بسبب علاقاته السابقة ببلاتر، إنه يشبه آكل لحوم البشر الذي يلتهم والديه ثم ينتحب لأنه أصبح يتيماً ثم يحاول إلقاء اللوم على الجميع”.