قصيدة الدهشة أو مفازات الذات في ديوان "بيت بعيد"

الشعر التماع وامتناع ماكر، جنوح هادئ نحو الأقاصي، وفتنة تنساب جذلى بعناصر الدهشة، كلام كهذا كم يصير مدرسيا وغائما وهو يتوخى تعريفا لا يلوي إلا على غير اهتبال عائم. الكتابة عن الشعر هي فعل خطير، ارتكاب يبتغي التعرية عن هندسة لا يملكها، فحوى ترتعش انفلاتا من شقوق زخرفة ما يراد لها.
الخميس 2015/08/13
الكتابة عن قصيدة الخصار هي استعادة للمحة غائرة في شفافيتها، لمحة استرعتها دهشة ما يفيض عنها

صدرت للشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، مجموعة شعرية جديدة بعنوان “بيت بعيد” في 130 صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة إبداع عربي. لوحة الغلاف للفنان أحمد اللّباد. يتكون “بيت بعيد” من سبعة نصوص طويلة، وهو الإصدار الرابع للشاعر بعد “أخيرا وصل الشتاء” و”أنظر وأكتفي بالنظر” و”نيران صديقة”.

لعلّي أبتدئ مستفيضا ببياضات علها تبلّغ عن نفسها، مما يعبّر عن اجتراح رؤية واجترار انزياح إضاءاتها على النادر والشفيف، في جنوح سيرتها للتعرية على مفاتنها، خاصة وأنا بصدد النظر إلى إحدى القصائد الأساسية داخل خارطتنا الشعرية المغربية.

لمحة غائرة

الكتابة عن قصيدة عبدالرحيم الخصار هي استعادة للمحة غائرة في شفافيتها، لمحة استرعتها دهشة ما يفيض عنها، وأيضا انتباه كامل في لحظتها. ولسبب واقع أن تأتي كتابتي مرتجة بفتنة ما تحاول التدليل عليه. الكتابة عن المتن الشعري، داخل ديوان “بيت بعيد” لهذا الشاعر هو تحليق بأدوات غائمة لاقتناص النادر والنفيس من سيرة الدهشة وهي تغض مجازاتها عبر مفازات الذات.

عبدالرحيم الخصار هو شاعر امتلك منذ وقت مبكر أدوات قلبه كلّها، لهذا تجد نصه يانعا يتدلى غيمة.. غيمة.. تجده يكتب النشيد الذي لم يتحقق أفق انفتاحه بعد، تسبيحا لتسابيح. وافتتانا تتجلى عنادله. واه واه! كم هو الشعر اهتبال خطير دافئ كوردة، وملتاع كقبلة.

شاعرية عبدالرحيم الخصار وأناقتها تظل محض حالة منفلتة من عاديات السائد والمنطبع، تتوجه إلى قارئها بوصفها اكتمالا جماليا معرفيا نادرا، يركب آليات المجاز الكتابي ما يجعل الجملة السطرية داخلها، تلتزم وتكتنز بعنصر التعدد كتشخيص بياني، والرحابة الشعرية اتساعه ومتنفسه.

القصيدة التي تستدرج وتسربل بياضها لاستضافة لغة التأمل ومضاعفته تنادي على اللانهائي

يقول الشاعر “قرعت الطبول لأغني فاندلعت الحرب/ ومن أجل هزيمتي رفعت راية بيضاء/ فتبدّى فيها عظمان وجمجمة/ لم أكن يوما ما قرصانا/ لكنني أحببت القراصنة”.

ويقول في موضع آخر “ربما أنا العابر الوحيد في هذه السفينة/ وربما أنا الأعمى الوحيد/ لذلك لم أبصر أرتال الآخرين/ الذين بازدحامهم قد يعجلون بالغرق”.

مسالك ومآزق

تتباهى قصيدة عبدالرحيم الخصار، في إضرامها عن ذاتها ببساطة المعطى فاعلها، مما يجعلها ذات مركب شعري عميق ينزلق ويطفو داخل انسيابيتها المرتهنة للطبول البدائية للنفسية الأصيلة للذات الإنسانية، تلك الذات المرهفة التي استلهمت من الأساطير ومحكيات المؤسسة للمخيال العمومي للبشر أوائل انتباههم للمصير، والسفر باعثهم في الوجود بحواسهم.

في ديوان “بيت بعيد” لهذا الأنيق صفاؤه، نتلمس التماعات أسلوبية يتفرد بها، وتنمية الوعي بها، نقديا سيؤثّث لها جدير سعادتها في حال وافتها بكبير التفاتة. فتجارب عديدة لم يضئ النقد مصابيح مساحات إبداعياتها. ما يميّز مسار التلقي لهذه القصيدة، إنها لاقت احتراما محترما لأسماء نيّرة في خريطتنا الشعرية، ما يؤوّل لها فائض قيمة تتمتّع في رحابته.

ورقة حطت على كتف عبدالرحيم الخصار فحولها ملاكا

يقول الخصار “أعيد يدي إلى القبعة السوداء/ وأخرج أرنبا أبيض لا يشبه الأرانب/ يعدو في المسالك المعتمة/ وتعدو خلفه أحلام الذين تكسرت أحلامهم على الجراف/ في نهاية العتمة لا بدّ أن يلمع الضوء/ لا بدّ أن يقف العطف بقمصانه البيضاء/ ويربت على الجفون التي أغمضها اليأس″.

مسالك ومآزق على هذه الورقة أن أتجاوزها، فقصيدة هذا الشاعر معطى لم يستعطف بعضه من شعار الجاهز والمتداول. بنياتها وبدلاتها تشي بجهد يعكس نموذجه ويكرّسه. فتجربة عبدالرحيم خصار فضاء نظرنا تجده أنها لانهائية تمسّ تعدد المركّب فيه، عبرها تكون المساءلة حاكما قضائيا، لكن لاستهداف إدراج المنسي واللامفكر فيه داخلها.

هذا الشاعر الذي استطاع أن يخطّ متنه، لمتنه مسارات ومنعرجات تستلهم من اليومي والهامشي نسغها لتصير بهذا بحاجة أكثر من المعمم الذي يسلب من القراءة صرامتها. فالقصيدة التي تستدرج وتسربل بياضها لاستضافة لغة التأمل ومضاعفته تنادي على اللانهائي، في حين هي متماهية مع فاعليتها وقضايا الذات، ليصبح التعدد هو ما يجعلها عصية على الاختزال بأيّ قراءة. يقول “تبكي كلما سقط فرد من العائلة/ الشجرة الوحيدة في باحة البيت”.

يقول الشاعر وديع سعادة في كلمة عن هذه المجموعة “أحسب أن ورقة حطت على كتف عبدالرحيم الخصار فحولها ملاكا، وأن دمعة في عينه جعلها كونا، وأن لهاثا في فمه صار عاصفة، وأن طفلا في قلبه شاخ قبل أن يكبر، وأن موتى كثيرين يتجولون في عروقه. أحسب أن عبدالرحيم الخصار “عش قديم على غصن شجرة مريضة بالحنين، يواصل التغريد وفاء للطائر الميت”.

14