كاتب ياسين وبعض الذكريات

الجمعة 2015/08/07

في هذه الأيام التي دارت -ولا تزال تدور- فيها المناقشات الساخنة حول مشروع تدريس العربية العامية للتلاميذ الصغار بدلا من الفصحى في المدارس الجزائرية، عادت بي الذاكرة إلى بعض لقاءاتي السريعة، في السبعينات ومشارف الثمانينات من القرن العشرين، بالشاعر والروائي والمسرحي الجزائري البارز كاتب ياسين الذي رحل عن دنيانا منذ عدة سنوات.

أذكر أن اللقاء الأول الذي جمعني به كان في مزرعة من مزارع مدينة البويرة التي لا تبعد كثيرا عن العاصمة الجزائرية حيث كانت فرقته المسرحية تتدرب على نصَ مسرحي مكتوب بالعربية العامية. خلال ذلك اللقاء كان ياسين يتحدث طوال الوقت باللهجة العربية العامية وأحيانا كان يشحنها ببعض مفردات اللغة الفرنسية، وعندما تحدثت إليه بالعربية الفصحى التفت إليَ بنوع من الاستغراب وقال لي بأن هذه اللغة التي أتكلمها ليست بالجزائرية، وحين سألته عن اللغة التي يعتبرها هو لغة جزائرية قال لي بأنها هي هذه العربية الدارجة التي كان يحدثني بها.

أذكر أنني حاولت كثيرا إقناعه بعكس ظنونه ولكنني لم أتمكن لأنه أصرّ مرارا وتكرارا وعلى نحو عنيف أن عاميته هي لغة البلاد، وأكثر من ذلك أنها هي اللغة الأمازيغية. وفي أحد الأيام التقيت به مرَة أخرى في قاعة المقار بعاصمة الجزائر بمناسبة عرض مسرحية له فيها استهله بإنشاد فرقته للنشيد الأممي ورفع العلم الشيوعي الأحمر. في تلك القاعة صرّح كاتب ياسين أمام الملأ وبكل وضوح وبصوت مرتفع أن “التعريب رافق دخول الإسلام إلى الجزائر والأسلمة هي التي أدّت إليه”، واعتبر كل هذا “غزوا عربيا”.

وفي حوار تلفزيوني له مسجل ومتوفر لمن يرغب في الاستماع إليه قال بالحرف الواحد “لا بدّ من تخليص الجزائر من أكذوبة العروبة “، منطلقا من قناعته بأن اللغة هي التي تحدد كلّ شيء. في تلك اللحظات استغربت أن يكون صاحب رواية “نجمة” الإنسانية في حالة طلاق كامل مع عقيدته اليسارية التي تؤمن بحق اللغات في التعايش، والتجاور وأحيانا التناص، وأن اللغة ليست سوى جزء من سلسلة الشروط التاريخية الكبرى التي تحدد هوية شعب من الشعوب، وبضرورة جعل الوطن فضاء كريما وسلميا وحواريا لتنوعاتها الإثنية أو العرقية أو المذهبية.

وفي ما بين 1993-1994 كنت بفيتنام، وزرت الخندق الذي كان يحارب منه البطلان التاريخيان الفيتناميان هوشي منه والجنرال جياب ضد الاحتلال الأميركي، وكان إلى جانبهما في ذلك الوقت الشاعر والروائي كاتب ياسين، حينذاك تساءلت مع نفسي: لماذا يتحوّل الإنسان هكذا من ثوريّ عالمي إلى مجرّد وطنيّ سجين لغة عامية، يتوهم أنها اللغة الوطنية التي يجب أن تحدّد كل شيء؟

كاتب من الجزائر مقيم بلندن

15