الترجمة كعملية اختراع للهويات
يتميز مفهوم الترجمة كممارسة حضارية بأنه من المفاهيم المعقدة كثيرا حيث أنه لا يعني مجرّد نقل نصّ من النصوص العلمية أو الفكرية أو الأدبية الإبداعية أو السياسية من لغة إلى لغة أخرى فقط، بل إن مثل هذه العملية لها تبعات وأبعاد ضمنية قليلا ما تخطر على البال.
لاشك أن عملية النقل، أو الترجمة، من هذه الثقافة أو من تلك الحضارة تبقى ميكانيكية، وغير مكتملة، وربما عبثية إذا لم تتزامن مع إنجاز فعل الغرس في التربة الثقافية الوطنية التي أملت الحاجة والضرورة عليها أن تلجأ إلى تلقيح نفسها بعناصر المعرفة المتقدمة وتقنياتها ومصطلحاتها التي تتضمنها في داخل نسيجها الداخلي تلك الثقافة المنقول عنها.
وفي هذا السياق ينبهنا الناقد البريطاني البارز روبرت يانغ في كتابه “مقدمة موجزة لما بعد الاستعمارية” أن الترجمة ليست “نشاطا تقنيا محايدا أو فعلا تجريديا، لأنها مصحوبة دائمة بالممارسة”، كما أن ترجمة نص من لغة إلى لغة أخرى هو فعل غير معزول عن صراع الإرادات أو عن أشكال الهيمنة المعلنة أو المضمرة تنتج عن الترجمة والتي تمارسها ثقافة ما على هوية ثقافة الشعب الذي ترجم إليها هذا المترجم أو ذاك.
ومن الطريف أن روبرت يانغ يرى أن المستعمرة تبدأ كترجمة عن البلد المستعمر حيث يتم حينا ترجمة أسماء قراها ومدنها وشوارعها إلى لغة هذا الأخير مع إدخال تحويرات عليها لتستقيم مع طريقة لفظ المستعمِر مثلا، وحينا آخر يقوم هذا المستعمر بإحلال أسماء مستمدة من تاريخه وثقافته محل الأسماء الأصلية المتداولة قبل الاحتلال وبذلك تفقد تلك المدن والقرى والشوارع أسماءها الأصلية وبالتالي تاريخها وهويتها.
وفي هذا السياق يمكن لنا أن نتحدث أيضا عن نموذج آخر من الترجمة التي تصبح تحويلا جذريا ونقلا من كيان إلى كيان مختلف كلية مثل المحاولات التي تمارس من أجل ترجمة شخصية شخص ما أو الشخصية القاعدية لمجموعة بشرية ما إلى ثقافة أخرى كما يحصل الآن على سبيل المثال لكثير من الإثنيات في المهاجر الغربية، حيث يتم إنكار التعددية الثقافية، بكل حمولتها اللغوية والروحية بما في ذلك الزي الذي يلبس، وحيث يطلب منها أن تخضع لشفرات وضوابط ومنطق ثقافة وزيّ المجتمع الذي تقيم فيه. ولعل الشعار الذي رفعته وما تزال ترفعه الحكومة الفرنسية وهو ضرورة القبول بإحلال “إسلام فرنسا” محل إسلام الجاليات المسلمة من أكثر العمليات التي تعمل على ترجمة الإثنيات وذلك قصد اختراع هويات جديدة لها تبدأ على أساسها التاريخ من الصفر.
كاتب من الجزائر مقيم بلندن