التقاليد والتراث
إن من يتابع ما تنشره مجلة الآداب الفرنسية شهريا يلاحظ اهتمامها المتزايد بالشخصيات الفكرية، والفنية، والأدبية التي تعدّ من ركائز الحياة الثقافية الفرنسية في العصور القديمة.
إن السر في هذا الاهتمام لا يكمن في مجرد استعراض سير وإنتاج القدامى، وإنما من أجل ربط الحلقات التاريخية معا وتفعيل روح التراث الفرنسي- الأوروبي مجددا وجعله جزءا عضويا من المغامرة الكبرى في عمليات البناء الثقافي العام على نحو مستمر. إلى جانب ما تقدم فإن المرء يرى بأم عينيه عودة نقاد الفكر والآداب والفنون في أوروبا إلى كنوز تراثهم القديم لمحاورته بدون توقف، وبعث القسمات الإبداعية فيه إلى مسرح الحياة اليومية في عصرنا هذا.
على هذا الأساس نجد مفكرا بارزا مثل بول ريكور يعود في أغلب كتبه الكثيرة والعميقة إلى ما يدعوه بالذاكرة التاريخية بأركانها الثلاثة وهي: التراثية، والتقاليد والتراث مبرزا الفرق بين هذه المصطلحات ومعمقا البحث من أجل “استخلاص المعنى الكلي للتاريخ”. في هذا السياق بالذات نجد ريكور “يحذر من الاستهانة المعاصرة بفضاء توقع التراث، فيرفض النزوع إلى طرده بوصفه شيئا مكتملا في ذاته، وعصيا على التغيير”، على حدّ تعبير المفكر ريتشارد كيرني في دراسته اللامعة “بين التراث واليوتوبيا: مشكلة التأويل النقدي للأسطورة”. فإقامة العلاقة مع التراث لا ينبغي، في اعتقاد ريكور، أن تكون من نمط منح النماذج القديمة السلطة النهائية على الحاضر، أو اعتبارها “ماهيات ثابتة”، بل إن الغاية المنشودة من تنشيط هذه العلاقة هي تحقيق وتفعيل “تفاعل عاملين، هما التجديد والرواسب”. إن الراسب في التربة الثقافية والوجدانية لشعب من الشعوب لا يعني أنه في عداد الموتى وإنما هو الطاقة التي تتحول عبر التاريخ وتتخذ أشكالا مضمرة تنتظر من يكشف عنها النقاب. في هذا السياق بالذات يميز المفكر ريكور وفقا لشروح ريتشارد كيرني بين المصطلحات الثلاث المذكورة.
فالتراثية Traditionality في نظر ريكور “هي الشرط المسبق لتحويل المعنى التاريخي الفعلي”، أي أنها هي الوضعية المعاصرة أو الشرط المعاصر للتراث، وبمعنى آخر فإن التراثية تعني في نظر كيرني “إضفاء الزمانية على التاريخ بوساطة جدل بين آثار التاريخ فينا -التي نعانيها سلبيا-، واستجابتنا للتاريخ -التي نؤديها بفعالية منَا-”، وتعني في نظر ريكور “أن المسافة الزمانية التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلا ميَتا، بل هي تحويل المعنى”، أما التقاليد فتعني أداء الوظيفة المادية لـ”محتويات التراث”، الذي هو الماضي التاريخي.
كاتب من الجزائر