شفيق عزيز فنان يحول المألوف إلى استيتيقا مضادة

منشآت مصغرة من الروسيكلاج والبريكولاج تتحول إلى منهجية في البحث والتجريب.
الأحد 2025/06/29
إعادة إنتاج المعنى خارج منظور "المستهلك"

للفن المعاصر رهانات أخرى على تقديم استيتيقا مضادة أو مغايرة لما هو مألوف، وبالتالي بناء خطاب آخر من خلال مواد قد لا تكون معتادة، خطاب لا يتوقف عند السطح أو إثارة الشكل بل يذهب بعيدا في حوارياته وحتى خصوماته مع المتلقي. الفنان المغربي شفيق عزيز اختار مواده من اليومي والمهمل ومنتهي الاستعمال ليقدم نظرة أخرى تتجاوز مجرد التدوير.

ليست الاستيتيقا المعاصرة حالة محايدة أو منعزلة عن توزيع العلاقات السلطويّة، إنما هي بالضرورة مغطّاةٌ بالسياسيّ والاجتماعي والثقافي والفني المضاد، الذي يسعى ليكون بديلا عن السلطة الرمزية والقائمة، التي تكرسها المؤسسات الرسمية بأسماء متعددة بما فيها الأخلاقية والهوياتية الثابتة لا المتحركة، فتَكُون الاستيتيقا المندرجة في ثنايا البراديغم المعاصر المضادّة أو البديلة أداة لتحويل وظائف الستيتيقي وضبطها بما يخدم التحرّر من الهيمنة المركزية.

المعاصرة تنتصر في جوهرها للهامش لا للمركز، مُحوّلة السلطة إلى بنى صغرى يخترقها الشتات، لكنها متصلة في انفصالها واستقلالها مع بعضها البعض، ضمن بعد واحد، في هذه الحال: المنجز الفني.

الاستيتيقا البديلة

تميّز هذه الاستيتيقا عن مفهوم “التجديد” أو “الابتكار” بمعنى أنّها لا تهدف إلى خلق صورٍ جديدةٍ تُبقي على بنية الاستيتيقي السائدة، إنما تُركّزُ على تدمير (démantèlement) وهدمِ وتفكيكِ هذه البنَى الاستيتيقية الكلاسيكية، ثم تحرير مادّيات الفنّ (الموادّ الخام، الخردة، الأجسام المستهلكة والمألوفة) من حدودها الشكلية المصنّعة، لتصبح قدراتها التعبيرية مسرحا للمقاومة والرفض والتشكيك في ما يُنعت بـ”ذاك هو الجمالي أو الجميل”.. فهي مضادة لهذه التصنيفات التي لبّها الجوهري متأت من التقسيمات الأخلاقية واللاهوتية: خير/ شر، صالح/ طالح، جميل/ قبيح، منظم/ فوضوي، ذو غاية/ عبثي…

إعادة استعمال الأجسام والكتابات اليومية تكتيكات للتفاعل مع الإستراتيجيات المهيمنة للسلطة الرمزية والمجتمعية والثقافة المؤسساتية

بهذا، عمدت مجموعة من التيارات، بما فيها المنتمية إلى براديغم الحداثة (الدادائية، التكعيبية…)، إلى زعزعة البرزخ الفاصل بين الفني وغيره، مدمجة في صميم المنجز، اللوحة غالبا، قطعا من عالم المعيش (monde vécu)، وهو دمج ذو نزعة كولاجية لوهب العمل بعدا دلاليا يحيل على العالم خارج عالم اللوحة. نوع من استدعاء لا التدوير، عكس تلك المنجزات التي توصف بأنها معاصرة، والتي قوامها الأساسي يقع خارج مبدأ الاستدعاء هذا، أي جعل الحدّ الفاصل بين عالم العمل الفني وعالمنا المعيش غير ممكن إدراكه أو تحدديه، في نوع من التلاعب الاستيتيقي بالتخوم والحدود.

الاستدعاء يكون ضمن رؤية فنية أسّها التأكيد جوهريا على أن الفنّ هو “صُنع وصنيع الأشياء في الآن عينه”، غير أن تلك الأشياء ما هي إلى ذرائع استيتيقية (prétexte) لتلبيس المفهوم جسما ماديا. وذلك عبر اشتغال يرى أن إعادة استعمال الأجسام والكتابات في حياتنا اليومية تشكّل تكتيكات للتفاعل مع الإستراتيجيات المهيمنة للسلطة الرمزية والمجتمعية والثقافة المؤسساتية التي تعمل على احتضان الخطاب لصالحها، وهو ما يلمسه الفنان والباحث شفيق عزيز.

يستدعي عزيز شظايا الإعلانات البالية وقطع التغليف المكتوب عليها كلمة “حلال”، على سبيل التمثيل، وأسلاك معدنية ومِزق وخيوط ودمى وصور من مجالات وجرائد، وقطع زليج… وغيرها. فيحوّلها من علامات استهلاكية إلى محفزات نقدية تثير أسئلة عن الطابع الفني والثقافي المشترك والمألوف لهذه القطع يوميا، وتكشف عن قدرة المتلقي على إعادة إنتاج المعنى خارجَ منظور “المستهلك” الجامد ليصبح فاعلا في توليد سرد واستيتيقا بديليْن.

j

يتنامى هذا البعد في تداخل الخيوط والشباك المعدنية وقطع الورق والخيش بتعدده وبعده مادة أساسية في بناء البنية البصرية لهذه المنجزات الإنشائية المصغرة والمعلّقة، إذ تتحول جميع هذه العناصر في تواصلها إلى علامةٍ دلالية تستحضرُ مفهومَ “المادة الاستدعائية” التي توظفها نظريةُ الأجسام – اللاعضوية عند دولوز وغاتاري – أخذا عن الكاتب الفرنسي أنطونين أرتو لتوضيح كيفية تشكل الانفعالات والتفاعلات دون الاعتماد على مركزٍ ثابت أو هويةٍ جامدة.

 تكون هذه الخيوط شبكة مرنة تسمح للعين بأن تنتقل بين النقاط، وتفتح متسعا لرؤية تحولات مستمرة في العلاقة بين مكونات العمل وعناصره التعبيرية، وذلك ضمن ما تتيحه كل إمكانية التجميع (assemblage) والتنميق (bricolage) والتلصيق (الكولاج). وذلك ضمن بعد من توظيف مفكر فيه للفوضى المنهجية، التي تنطلق من الكارثة ولا تقيم حدّها.

يلتقط شفيق عزيز خطّا رفيعا من التناصّات المتأتية من تعددية مصادر (عناصر) منجزه، محفورا في نصه البصري الذي يشبه منجزا سرديا تَفْتتحُهُ الأسئلةُ عن “العلامات التي تلتصق بنا كما يلتصق ثمارُ نبتة الأرقطيون بفراء الحيوانات”، كما يتحدث الفنان نفسه، وتستأنفُهُ الفكرةُ بسؤالٍ عن “الصدمة” التي يتركها هذا الاحتكاك في الأجسام والأرواح، فتكشفُ لنا أنّ النصَّ والخامات بذورٌ لمختبر تجريبي تتشابك فيه اللغة والصورة والمشاهَد لتوليد أفكار ورؤى مغايرة.

يُصيّر الفنان، بهذا المعطى المفاهيمي، الأشياء اليومية إلى أغراض تستحيل إلى دواع تأملية في تداعيات العمل، قبل الذات التي لامست واشتغلت ولعبت ولبست تلك العناصر/ الأغراض، التي تحوّلت من كونها منسية ومتروكة في متاهات النظر الأعمى والمألوف المهمل إلى مفردة تشكيلية في ذاكرة العمل الفني، المفتوح على أسئلة ثقافية متباينة ومتنوعة، منها ما يلامس المشترك وما يخاطب الذاتي.

تنطلق هذه الوجهة من فكرة أن المادة الفعلية تُشكّل مصدرا للأفكار والرؤى، لا مجرد وعاء شكليّ. لهذا فعناصر المنجز ما هي إلا مطايا مأخوذة من ذاكرة طفولة الفنان، لتمنح الفكرة غطاء بصريا مشدودا للدهشة أكثر من كونه ذا غاية واضحة. بذلك، يقرّب عزيز الحاضر الفنيّ من الظاهرة الاجتماعية (الفردية والجماعية)، ويحوّل فضاء العرض إلى مختبرٍ للتفاعلات الإنسانية.

النظر عبر المرآة

شفيق عزيز يخلق حوارا دائريا بين العمل والمتلقي، فكل مواجهة بالفن المضاد تنشط وعي المتفرج بلحظات الدهشة
شفيق عزيز يخلق حوارا دائريا بين العمل والمتلقي، فكل مواجهة بالفن المضاد تنشط وعي المتفرج بلحظات الدهشة

وتعتمد تجربة الفنان على لغة مزدوجة بين المادة/ العناصر والكلمة/ النص، فالإشارات المكتوبة بخط الشارع – إن صح هذا التعبير – تُضفي على التركيبات بعدا سرديا يقود المتلقي إلى حوار مفتوح مع العمل. يثبت الفنان هنا أن التناصّ اللغوي – البصري بين الأجسام والكتابات يولّد قوة اشتباكية بين البصر والفكر، حيث تحفّز العبارة العفوية المتلقّي على الانخراط المعرفي، من خلال قراءة عناصرها تبعا لما تحيل عليه في علاقتها هي بذاكرته وذاتيته، وما تمثّله أيضا جل التركيبات من دلالة سيميائية نابعة من المخزون البصري لدى كل متلق.

وسبق أن تحقق ذلك في عمله الذي ارتكز على المرآة كعنصر مركزيّ متكرر ومتعدّد الأوجه، يُقدّم عبره شفيق عزيزي تجربة بصرية تنسج بين الذاتي والجماعي في نسق واحد: فالمرآة، بوصفها أداة لشكل الزينة وتزيين الذات، ليست مجرد سطح عاكس ينقل صورة المنظور وحسب، إنما هي بوابة مفتوحة على ذكريات الطفولة المندثرة، تلك اللحظة الأولى التي نتعرف فيها على وجوهنا ونكتسب شيئا من النرجسية التي تشكّلنا أمام باقي الوجوه التي نترصدها، وسطوع اللحظات المشتركة مع الآخرين داخل “العالم المصغر” الذي نسميه الأسرة، وتمتدّ لتشمل “العالم الأكبر” المعبّر عن نسيج المجتمع، وصولا إلى عوالمه الحميمية الأخّاذة.

وبقدر ما ينظر الناظر إلى ذاته ويندهش لاستمرارية الصورة المنعكسة، فإنّه ينظر إلى المرآة أيضا كجسمٍ مشحون بقدرة علائقية (relationnel)  تولّد في ذهنه سؤالا عن حدود الذات والجماعة، وعن وظيفة الشيء الاستهلاكيّ حين يتحوّل من مادة خام إلى حامل لتجربة استيتيقية تضجّ بإيقاعات الاستفزاز.

تستفزنا المرآة لننظر إلى ذواتنا وأجسامنا من خلالها، إنها العين الجماعية الموحّدة في انعكاس واحد قبل أن نواجه “الآخرين/ الجحيم”. هذا التوظيف اللعبيّ (Ludique) للمرآة لا يُخفي ماديتها، ولكنه يرفعها إلى مصاف المفهوم، حيث يصبح “الجمال” و”التجمّل” ضمن بنى استدراكيّة تثير في الناظرين الدهشة والقلق اللذين يمهّدان لانبثاق تأويلات جديدة قبل أن يعود الخطاب البصري إلى ذاته، فيدعو إلى إعادة النظر في قيمة التأمل وحميمية الاحتفاء بالمرايا داخل اللعبة الفنية المستمرة.

يشتغل بهذا المسعى شفيق عزيز عبر منهجية مهندس يدير خاماته المتعددة والمتنوعة في حقل بنائي موحد، وهو ما يمكن أن يصطلح عليه بالبريكولاج، حيث يؤالف الفنان بين مختلف مركبات منجزه ضمن إستراتيجية استيتيقية، تحوّل الفوضوي والكارثي إلى نظام مؤقت. نظام ظاهري لكنه ميّال إلى التفكك، ليس بمعنى التخريب السلبي، لكن بما يتيح لكل عنصر استقلاليته الذاتية ضمن إمبراطورية المتلاشيات والمتفرقات والمزق هذه.

وبالتالي، فبقدر ما نتعامل تأويليا مع المنجز ككل، فننحن نقف بالضرورة أمام كل عنصر على حدة، لقراءة دلالته وموضعه وموضوعه/غايته في العمل الفني.. الأمر شبيه بالكتابة النصية الأدبية المعاصرة، حيث “لا شيء خارج النص”، تبعا للقول الدريدي، فكل كلمة مستقلة بذاتها وكل جملة تحيل على معانيها المتعددة، أما النص/المنجز فكل معانيه رهينة الإرجاء والتأجيل، كأنها تقع في اللانهائي، في المستحيل تعيينه وقوله وتحديده..

الوليف البصري المتشذر

التناص اللغوي – البصري بين الأجسام والكتابات يولد قوة اشتباكية بين البصر والفكر لتحفيز المتلقي على الانخراط المعرفي

من زاوية نظر أخرى، يمكننا القول إن المنجز هنا، التجميعي، يتحقق من حيث هو توليفة بصرية لنصوص شذرية (fragmentables)، لكل نص غايته الخاصة لكن النصوص جميعا تجتمع لتشكّل المشروع/ المنجز، غير القابل للاكتمال، لأنه وإن انغلق داخل الإطار فهو يتجاوز لاستدعاء العناصر المتشابهة والألفاظ المتناصة معه والرؤى المتقطعة مع غايته، وشفيق عزيز المسكون بالسؤال البحثي والاستشكال المفاهيمي مدرك للأمر لهذا فحينما يشتغل على عمله فإنما من باب اللعب والتوليف المرح، كما يُنمّق الأطفال ألعابه المصنوعة من المتلاشيات، حيث في فنِّ البريكولاج تنبتُ من أيدي الفنان – الباحث بذورُ الوهمِ المنهار.

لا يقفزُ الفنان إلى مرتفعات بعيدة عن واقعه، إنما يصغي إلى نبضِ الموادّ الحاضرة تحتَ أظافره، ويتماهى مع نبضاتِها في معركةِ الإبداع والحياة معا. لا هوامشُ مخططاتٍ ترسم له دروبا مسبقة، ولا أجنحةُ أوهامٍ تحملُه صوبَ أفق بعيد. يتركزُ الفنان المُنمّق في المواجهةِ السريعةِ مع ما هو موجود ومألوف للعين حدّ النسيان، فيحوّلُ الفوضى إلى إيقاع، والفتاتَ إلى منجز لا يحتاج إلى شهادةِ براءةٍ من المستقبل. إنه يختلقُ ذاته بقواميسِ اللحظة، لا بمرجعيّات، ولا بقوالب جاهزة، وبلمسة اليد الخالصة للعالم الممسوك في كفه.

بهذا تتحول “الاستيتيقا المضادة”، المتضحة في منجز/ مختبر شفيق عزيز، إلى منهجية في البحث والتجريب، لا مجرد تيار شكلي أو حركي، حيث يتاح للفنان أن يكون صانع سياق يستثمر لغة الجسم والذاكرة والكتابات الشارعيّة والإعلانية، فتتداخل الشظايا السردية مع الشظايا الماديّة في إنجازات فنية مفتوحة على التفسير والتفاعل المستمرّ.

إنّ هذا المنحى يخلقُ حوارا دائريا بين العمل والمتلقّي، فكلُّ مواجهة بالفنّ المضاد تنشّط وعي المتفرج بلحظات الدهشة، ثم تدفعه إلى مراجعة فرضياته عن الجمال والأخلاق والسلطة، وصولا إلى إدراك أن “الاستيتيقي” ليس حالة جامدة، إنما أداة تغيير ثقافي واجتماعي قائمة على التحوّل والتجديد المستمرّ: “الاستيتيقا البديلة”.

Thumbnail
Thumbnail
11