"موعد مع الماضي".. معالجة درامية مصرية لرواية عالمية

تميز مسلسل “من قتل سارة؟” المكسيكي بإيقاعه السريع وتحوّلاته المفاجئة، وقد حقق نجاحًا كبيرًا على الصعيد العالمي، واعتُبر من أكثر المسلسلات غير الإنجليزية مشاهدة على نتفليكس عند إطلاقه. وبعد تقديمه بنسخ عديدة، يعرض حاليا بنسخة مصرية، تبرز مواهب مختلفة في صناعة الدراما، تقدم معالجة تتماشى مع المجتمع المصري خصيصا والمجتمعات العربية في العموم.
تحتفظ الدراما الثأرية بموقع متقدم في الكثير من الأعمال الفنية، ولا يؤثر فيها مرور الزمن، حيث تظل مطلوبة ومليئة بالمفاجآت التي يطرب لها الجمهور، وهي دراما متجددة، تأخذ بمقتضيات العصر وقصصه، وإن كانت مستقاة من الماضي، وباتت عصية على الإحالة إلى متحف النسيان الدرامي.
وأيّ حديث عن دراما الثأر والانتقام يذهب على الفور إلى مرجعها ومشربها الأهم، الذي لا تبلى معالجاته أو تتوقف عند محطة معينة، وهي رواية الأديب الفرنسي ألكسندر دوما الأشهر “كونت دي مونت كريستو” وصدرت عام 1844 ونهلت من مشربها المئات من الأعمال الفنية على مستوى العالم.
ووجد الكثير من صناع السينما والدراما في مصر منذ فترة طويلة ضالتهم في حكايات الانتقام والثأر بوصفهما من الرهانات الرابحة لجذب الجماهير، وجرى تقديم عشرات المعالجات التي لا يزال بعضها يلقى قبولا لدى المشاهدين، لا يتأثر بزمن إنتاج العمل أو طريقة فنية للمعالجة، فدائما هناك جديد.
وقد تحولت رواية “كريستو” دوما إلى ما يشبه المرجع الأهم لهذا الطرح عبر معالجات شهيرة، مثل “أمير الانتقام” لنجم مصر في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي أنور وجدي، من إخراج هنري بركات عام 1950، و”دائرة الانتقام” للفنان نور الشريف، وأخرجه سمير سيف عام 1976، في أول تجربة إخراج له، وقفز عبر نجاح الفيلم الكبير إلى مصاف أهم المخرجين في مصر، وصولا إلى فيلم “الدشاش” للفنان محمد سعد وأخرجه سامح عبدالعزيز وعرض العام الماضي.
من قتل نادية
غير بعيد عن الطرح الدرامي الثأري المستوحى من “كريستو”، عاودت الدراما المصرية الكرة مجددا لتقدم مسلسل “موعد مع الماضي” وبثته منصة نتفليكس في 8 حلقات، وحقق نسب مشاهدات عالية، وكتبه محمد المصري وأخرجه السدير مسعود، وتم انتقاء باقة من الفنانين المتميزين لبطولته، أبرزهم آسر ياسين ومحمود حميدة وشريف سلامة، ويعد المسلسل معالجة مصرية للدراما المكسيكية الشهيرة “من قتل سارة؟” التي قدمتها نتفليكس أيضا عام 2021.
تدور أحداث العمل عبر خطين زمنين، الأول منذ 15 عاما ونتعرف من خلاله على أصدقاء من أعمار متقاربة، أثناء عطلة بإحدى المدن الساحلية، حيث يقومون بالغطس في مياه البحر الأحمر، وبشكل مفاجئ تغرق إحداهن وهي الفتاة نادية.
ونتعرف سريعا على خارطة علاقات القوة التي تجمع هذه الصحبة، فأحدهم الشاب الثري علي ويقوم بدوره شريف سلامة وتجمعه علاقة عاطفية بالمتوفاة نادية التي جسدت دورها الممثلة هدى المفتي ووالده ياسين ولعب دوره الفنان محمود حميدة، وهو الرجل الثري صاحب النفوذ السياسي، بينما والدته سوسن وجسدتها الفنانة شيرين رضا ولديه شقيقتان أصغر منه، وتلعب دورهما الفنانتان صبا مبارك وركين سعد، وعلى جانب آخر هناك يحيى وهو دور محوري للعمل ويجسده الفنان آسر ياسين.
ثارات الماضي
في حبكة مكررة يضغط ياسين على يحيى ليتحمل مسؤولية حادث غرق نادية أمام القضاء، مقابل مبلغ كبير من المال، ويتغير الوضع عندما تكتشف النيابة خلال المحاكمة أن موت نادية ليس مجرد حادث غطس، بل قتل عمد لضرر تم إحداثه في أنبوب الغطس، فيصبح يحيى متهما في جناية، ويحكم عليه بـ15 عاما من السجن.
تنتقل الأحداث في المشاهد التالية إلى حاضر أبطال المسلسل في الوقت الحالي، ويتزامن مع خروج يحيى من السجن، والمحمّل بغضب شديد ونية انتقامية ثأرية تجاه العائلة التي دمرت حياته، ويعتزم البحث عن المسؤول عن مصرع نادية، وبالفعل ينفذ خطة وضعها مسبقا.
وعبر سيناريو مبنى على “ثيمة” التشويق يصطحب العمل البطل يحيى إلى دائرة واسعة من الشكوك المصحوبة بجرائم القتل والحركة التي تطال كل أفراد أسرة الثري ياسين، حتى تتكشف الحقيقة في نهاية العمل وتتمثل في مسؤولية ليلى التي أدت دورها الممثلة ركين سعد، وهى الابنة الصغرى لياسين، وقامت وهي طفلة خلال زمن الحادثة بشق خرطوم أنبوب الغطس الخاص بنادية، وصور لها عقلها الصغير أنها تتجاهلها ولا تحبها، وهي نهاية تحمل الكثير من المبالغة يبدو أن صناع المسلسل لجأوا إليها كحل لشيفرة لغز مقتل الفتاة نادية.
مثّل الثلاثي المكون من الفنانين محمود حميدة وآسر ياسين وشريف سلامة مركزا للثقل التمثيلي للعمل بأداء بارع لكل منهم، في وقت حاول فيه صناع العمل إضفاء لمسات مصرية على المسلسل، رغم كونه نسخة من المسلسل المكسيكي “من قتل سارة؟”، وتمت إضافة مشاهد تعكس الحياة في الأحياء الشعبية المصرية، وهى مشاهد ارتكزت على أداء الفنان الكوميدي محمد ثروت الذي جسد دور صديق يحيى ورفيقه خلال سنوات السجن.
معالجات عالمية
بالعودة إلى هوليوود، يصعب حصر المئات من الأعمال السينمائية والدرامية التي اعتمدت على روح رواية “كونت دي مونت كريستو” لألكسندر دوما بمعالجات متعددة، ولاقت نجاحا كاسحا عند عرضها حول العالم، ومن أروع هذه المعالجات تحفة المخرج العالمي سيرجيو ليون “ذات مرة في الغرب الأميركي” (Once upon a time in the west) التي أخرجها عام 1969 وأسند بطولتها إلى نجم هوليوود الكبير هنري فوندا والنجمة كلوديا كاردينالي، وأسند دور المنتقم لتشارلز برونسون وهو الدور الذي كان رخصة انطلاقه كأحد أهم نجوم هوليوود خلال عقدي سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
ويتناول الفيلم الذي تدور أحداثه في أجواء الغرب الأميركي القديم خلال القرن التاسع عشر عملية انتقام شخص مجهول من قتلة أخيه الأكبر وهو في طفولته ليكشف هويته في اللحظات الأخيرة من انتقامه.
علاوة على الفيلم المهم “انتقام” (Revange) للنجم العالمي الكبير أنتوني كوين والنجم الهوليوودي كيفين كوستنر، وأخرجه توني سكوت عام 1990 ولعب فيه كوستنر دور المنتقم الذي يثأر لمقتل حبيبته، وينتقم من أعضاء مافيا خطيرة وزعيمها الذي يجسده النجم الأميركي الكبير أنتوني كوين.
لن تفرغ جعبة معالجات السينما والدراما من الثأر على مستوى العالم، حيث يرتكز جذبها المتجدد للمشاهدين عبر كل العصور على ما تخلقه مرارات الظلم والقهر، والتي تسيطر تماما على البطل المظلوم، وكلما زادت وحشية الظلم زادت حدة انتقامه التي من شأنها أن تنفس عمّا يجيش في أفئدة شريحة كبيرة من المشاهدين، متمثلة في إحباطات أو مرارات عاشوها في حيواتهم، ليظل الجمهور دائما في انتظار سرديات انتقام جديدة، متقنة فنيا، وتتوافق مع مقتضيات البيئة التي تدور أحدثها من خلالها، تحمل توقيع ألكسندر دوما وعمله الخالد “كونت دي مونت كريستو”.