"قشة".. فيلم أميركي يطرح صرخات المهمشين ووحشية الرأسمالية

عمل تراجيدي يضج بلغة الكاميرا أكثر من الحديث عن العنصرية.
الخميس 2025/06/26
امرأة تسعى للحصول على حقها بأي طريقة

تبدو الدول الرأسمالية حلما يصعب الوصول إليه بالنسبة إلى شعوب العالم النامي، أو هي حياة أقرب إلى الجنة التي تحلم الغالبية بأن تجربها، لكن الحقيقة على الأرض مختلفة كليا، فالرأسمالية نظام متوحش يقهر الضعفاء ويدخل في صراع للبحث عن قوت يومهم ولضمان حقهم في البقاء. وهذا ما يكشفه فيلم "قشة" الذي يدخل عالم النساء المضطهدات والفقراء في الولايات المتحدة.

ماذا يخفي الرمز الأيقوني المنتصب بجزيرة الحرية أمام نيويورك رمزا لليبرالية والديمقراطية وتجسيدا لحلم التعايش ومجتمع ما بعد الرفاهة؟ واقع الأمر أن وجه الحرية البراقة يتستر على عالم كامل من ضحايا الرأسمالية المتوحشة والكيل العنصري بعدة مكاييل وأن الزعم بانتصار حركة الحقوق المدنية ومساواة السود مع البيض في الحقوق هما مجرد صورة يتم تصديرها للعالم لا تتطابق مع الواقع المعاش في ثنايا المجتمع الأميركي.

يضعنا الفيلم الأميركي “قشة” straw الذي بثته منصة نتفليكس قبل أيام واحتل المركز الأول في قائمة الأفلام الأعلى مشاهدة منذ اللحظة الأولى أمام الوجه القبيح لوحشية الرأسمالية الأميركية التي تفتك بالكادحين ورقيقي الحال، حيث تمزج سرديته معاناة هؤلاء الكادحين للحصول على ما يسد رمقهم وأسرهم مظفرة مع قضيتي الأمهات المطلقات والعنصرية ضد السود، عبر قصة “جينايا” الأم السوداء المطلقة التي تعمل فترتي عمل يوميا لتنفق بالكاد على طفلتها المريضة بمرض عضال.

قشّتان مكملتان

الفيلم الأميركي يضعنا أمام الوجه القبيح للرأسمالية الأميركية حيث تمزج سرديته معاناة الكادحين للحصول على ما يسد رمقهم
الفيلم يضعنا أمام الوجه القبيح للرأسمالية الأميركية حيث تمزج سرديته معاناة الكادحين للحصول على ما يسد رمقهم

حدد سيناريو الفيلم الذي كتبه وأخرجه المخرج الأميركي ذي الأصول الأفريقية تايلر بيري ولاية تينسي الأميركية مسرحا لأحداثه، في إشارة قوية إلى رمزية الولاية ذات الأغلبية السكانية من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية، وهي ولاية شهدت عاصمتها ممفيس اغتيال مارتن لوثركينغ زعيم حركة الحقوق المدنية عام 1968قبيل إلقاء خطابه بالمدينة ضمن حملته لمناهضة العنصرية والتفرقة على أساس اللون أو العرق.

عنون بيري عمله السينمائي تحت اسم “قشة” إشارة إلى دلالتين. الأولى القشة الأخيرة التي طفح بها كيل جينايا الشخصية المحورية للفيلم، والثانية كون جينايا لا تعدو مجرد قشة ضعيفة في مواجهة أعاصير وحشية الرأسمالية المظفرة ببراغماتية الأميركيين.

وفي عمق غرفة مظلمة متشققة الجدران تبدأ حكاية جينايا التي تجسدها الفنانة الأميركية تراجي بي. هينسون، وهي أم وحيدة تعيش على حافة الانهيار النفسي، وتحاول النجاة وسط ضغوط العنصرية والفقر والوحدة وصراعاتها النفسية الداخلية الدفينة. طفلتها الصغيرة المريضة بمرض عضال نائمة بجانبها غائبة عن العالم بسماعات في أذنيها، بينما تتكسر جينايا ببطء تحت وطأة الحياة.

وعقب هذه الافتتاحية يستعرض الفيلم في قلب الأزمات الخانقة المشتعلة التي تحيط بالأم جينايا، فصاحبة العقار تهدد الأم بالطرد إذا لم تسدد الإيجار المتأخر وتمهلها ساعات حتى تقبض جينايا راتبها، وتتوجه الأم إلى عملها بأحد المتاجر الذي تعمل فيه “كاشيرة” لتجد رئيسها المباشر يمارس عليها ساديته الوظيفية عبر قهرها غير المبرر ويكلفها بأعمال إضافية تفوق طاقتها، وتأتيها مكالمة من مدرسة طفلتها تستدعيها لمناقشة سوء حالة ابنتها البدنية والصحية.

وتحاول جينايا الحصول على إذن من رئيسها المباشر للذهاب إلى مدرسة الطفلة، إلا أنه يكتفي بمنحها نصف ساعة فقط للذهاب والعودة. وعند ذهابها إلى مدرسة طفلتها تفاجأ بتواصل مديرة المدرسة مع الجهات الحكومية الاجتماعية المنوط بها تقييم حالة الأطفال في المدارس، وتقرر هذه الجهة احتجاز طفلتها بعيدا عن حياة أمها الصعبة تمهيدا لسحب حضانتها، وعند عودتها للعمل منهارة تتلقى ضربة أخرى من رئيسها المباشر يبلغها بفصلها من العمل لغيابها ساعتين بدلا من نصف ساعة ويمتنع عن منحها الشيك المصرفي الخاص براتبها.

في هذه الأثناء التي تصل فيها جينايا لذروة انفعالاتها النفسية والعصبية خلال حوارها مع رئيسها يتعرض المتجر للسطو المسلح لتكون “القشة” الأخيرة التي طفح بها كيل جينايا لتتمكن من أخذ سلاح أحد الشخصين اللذين قاما بالسطو وإطلاق النيران عليه ليسقط قتيلا ويفر الشخص الآخر.

أحداث دموية

pp

تتوالى سلسلة الأحداث الدموية، حيث يحاول رئيسها الاتصال بالشرطة للإبلاغ عن قيامها بالقتل متهما إياها بالتواطؤ مع عصابة السطو لتطلق علية النيران أيضا، وتبحث عن شيكها المصرفي الخاص براتبها لصرفه.

تصل ذروة الأحداث عند وصول جينايا للمصرف وأثناء طلبها صرف راتبها تلمح موظفة المصرف الدماء على ملابسها كما تلمح المسدس الذي بحوزتها خلال فتحها لحقيبة يدها لإحضار الشيك المصرفي لتضغط الموظفة على زر طلب الشرطة المخفي، يتحول مسار الأحداث إلى مواجهة عملية سطو مسلح على أحد المصارف وتضطر جينايا إلى إشهار سلاحها لصرف قيمة راتبها فقط إلا أنها تفاجأ بحصار الشرطة واستدعاء المباحث الفيدرالية.

تتطور الأزمة التي يتم تصديرها للرأي العام على أنها اقتحام امرأة سوداء قاتلة لأحد المصارف واحتجازها لرهائن، وخلال أحد المشاهد تتواصل معها إحدى المفاوضات لتقص عليها جينايا قصتها المؤلمة في وقت تقوم إحدى الموظفات دون علم جينايا ببث مباشر لما يدور داخل المصرف على وسائل الإعلام ومنها محادثة جينايا المؤلمة التي تروي مأساتها للمفاوضة، قائلة وسط دموعها التي تفيض منها “أردت فقط راتبي لأتمكن من دفع إيجار شقتي كي لا أطرد إلى الشارع مع طفلتي المريضة.”

أحدث بث هذا الحديث على وسائل الإعلام دويا هائلا، وتدفقت حشود من المناصرين للدفاع عن جينايا الأم السوداء الوحيدة التي تمارس منظومة الحياة القهر عليها.

وبينما تستعد فرق الاقتحام الخاصة لاقتحام المصرف يفاجأ الجميع بجينايا وقد أطلقت سراح كل من بالمصرف، وسلمت نفسها تاركة الضمير الأميركي في مواجهة كوابيسه المؤلمة من الرأسمالية المتوحشة وإخفاء العنصرية والتهميش والاضطهاد تحت عباءة المساواة والحرية والديموقراطية الزائفة.

لحظات تحول

oo

نجح الفيلم في الوصول إلى وجدان المشاهدين، لأنه لم يقدم قصة كبيرة بصخب خارجي، ورصد تلك اللحظات الصغيرة التي تتحول إلى انفجارات صامتة، فقد قدم تايلر بيري الذي كتب وأخرج الفيلم عملا يحفر في التربة النفسية لأمهات يتم تجاهلهن يوميًا، عبر تقديم عمل تراجيدي يضج بلغة الكاميرا، التي أبدع فيها طاقم تصوير رائع بقيادة جوستين مورو، أكثر مما يضج بالحوار.

وتماس الفيلم مع عدد من روائع السينما العالمية التي أطلقتها هوليوود، ومن أبرزها الفيلم المهم “عصر يوم سيء” Dog day after noon وحصد جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو للكاتب ليزلي والتر والمخرج العالمي سيدني لوميت عام 1975، ولعب بطولته النجم آل باتشينو والفنان الأميركي جون جازال، حيث اتكأت سردية الفيلم على واقعة سطو لأحد المصارف قام بها أحد الشبان فقط ليتواصل مع وسائل الإعلام ليكشف وحشية الرأسمالية الأميركية التي أفرزت آلاف المهمشين والتهمت أحلام الشباب في فرص عمل مناسبة وجرتهم إلى أعمال دنيا مقابل مبالغ زهيدة.

ويعد الفيلم الكوري المهم “طفيلي” (Parasite) الحائز على جائزة السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي عام 2019 وأحدث دويا عالميا كبيرا عند عرضه لأحد أهم المعالجات القوية لقضية انسحاق المهمشين في ظل توحش الرأسمالية، وتناول العمل قضية التفاوت الطبقي، وتعملق الرأسمالية لتسحق الطبقات المهمشة والفقيرة، من خلال قصة عائلة فقيرة مهمشة تعمل لدى أسرة كورية فاحشة الثراء وتحيا على الفتات الذي تلقيه إليها هذه الأسرة.

14