"القسم كيو".. دراما بريطانية تفتح ملفات الفساد والعنصرية

اللاجئون والمهاجرون العرب نحو الغرب ليسوا جميعهم خطرا على المجتمعات وتماسكها، بل بعضهم كنز من العلم والمعرفة والسلوك أيضا، يمكن أن تستثمر فيهم الدول المضيفة وتجعل منهم إضافة مهمة لرقيها، وهذا ما يحاول كشفه مسلسل “القسم كيو” الذي يفكك قضايا داخل المجتمع البريطاني داعيا إلى نبذ العنصرية العرقية.
اختبأ المؤلف والمخرج العالمي سكوت فرانك الحاصد للعديد من الجوائز العالمية والمرشح مرتين للأوسكار في عمله الدرامي الجديد “القسم كيو” Dep – Q بمهارة شديدة داخل عباءة دراما الإثارة البوليسية والجريمة لضمان الاستحواذ على أكبر زخم من المشاهدة، يمكّنه من طرح رؤيته حول بعض القضايا المسكوت عنها في المجتمعات الغربية عبر رحلة نفسية – اجتماعية داخل خفايا النظام البريطاني المظلمة.
نجح سكوت فرانك في مسعاه بالفعل ليحصد المركز الثاني في قائمة المسلسلات الأعلى مشاهدة على منصة نتفليكس في الأيام الأولى لبثه، ومن خلال التخفي الدرامي، قدم فرانك حبكته الجديدة لمواجهة مجموعة من أعقد المشكلات التي تحياها بريطانيا كنموذج للمجتمعات الغربية، وفي القلب منها قضايا المهمشين والفساد والقصور القضائي والعنصرية، وبخاصة الموجهة ضد العرب والمسلمين، وازدواجية المعايير، إضافة إلى إشكالية الإثنيات العرقية داخل هذه المجتمعات.
نسيج محكم
بنى فرانك نسيج المسلسل الدرامي “القسم كيو” الذي يرمز إلى قسم في الشرطة البريطانية مختص بإعادة فتح القضايا القديمة المعقدة، على عدد من الخيوط الرئيسة، في مقدمتها اختياره إدنبره عاصمة إسكتلندا كمكان للأحداث ليضع المشاهد أمام معضلة الإثنيات العرقية في المملكة المتحدة. فالبطل في المسلسل هو المحقق الفذ مايكل مورك، وجسده بمهارة الفنان البريطاني ماثيو جود، بكل تقلباته النفسية الناجمة عن عدة صدمات تعرض لها في عمله ومنزله.
ومايكل مورك هو بريطاني انتقل من لندن للعمل في إسكتلندا، ويشعر بعدم الارتياح من قبل السكان المحليين أينما ذهب، نظرا للصراعات التاريخية بين بريطانيا وإسكتلندا، بينما تمثل الخيط الثاني في شخصية أكرم سالم وجسدها ببراعة الفنان البريطاني روسي الأصل اليكسيج مانفيلوف، كلاجئ سياسي سوري فار إلى بريطانيا منذ سنوات بسبب الحرب الدائرة في بلاده.
وأكرم سالم هو شرطي سوري سابق يتمتع بكفاءة عالية إلا أنه عندما يلحق بالعمل بأحد أقسام الشرطة البريطانية بإدنبره يعامل بعنصرية شديدة وتوكل إليه مهام بعيدة عن العمل الشرطي، مجرد مهام إدارية ولوجستية داخل هذا القسم حتى يقتنع مورك بكفاءة أكرم ويضمه إلى فريقه بـ”القسم كيو”.
وتمحورت كل الخيوط الدرامية السابقة حول مؤشرات الفساد القوية التي تتجه نحو النيابة العامة الإسكتلندية وقصور النظام القضائي البريطاني والمتزامنة مع الاختفاء المفاجئ والمريب للمدعية العامة ميريت لينجارد منذ أربعة أعوام وتجسدها الممثلة كلوي بيري، والتي كشفت مؤشرات قوية تقود إلى هذا الفساد بمعاونة أحد الصحافيين الذي يلقى مصرعه عقب اختفاء ميريت.
غياب ميريت
سلطت افتتاحية المسلسل الضوء على الفساد الذي يشوب بعض أوجه النظام القضائي البريطاني، مستهلا أحداثه بمرافعة النائبة العامة ميريت لينغارد كممثلة للادعاء العام في قضية اتهام غراهام فينش، أحد كبار رجال المال في إسكتلندا، بقتل زوجته عبر دفعها من سلم قصره لتلقى مصرعها، إلا أن نفوذ فينش يسيطر على محلفي المحكمة ليصدروا حكمهم بتبرئته رغم شبهات القتل القوية.
وعقب مرافعتها تختفى ميريت فجأة في أثناء رحلة بحرية تجمعها بشقيقها المعاق، ويظل مصيرها مجهولا طيلة أربعة أعوام، تنتقل فيها الأحداث إلى أحد أقسام الشرطة البريطانية في إدنبره، حيث يتم تشكيل قسم جديد لفتح القضايا التي لم يتم حلها أو فك ألغازها، وتوكل إدارته للمحقق الفذ مايكل مورك.
تكشف سردية المسلسل عن معاناته في التفاعل مع المجتمع الإسكتلندي الذي يتجنبه ويتعامل معه في أضيق الحدود، لكونه بريطانيا انتقل من لندن، فضلا عن صدمة نفسية تلقاها خلال قيامه بالتحقيق في إحدى القضايا وإطلاق النيران عليه وفريقه، ما أسفر عن شلل المحقق هاردي، صديقه وشريكه في العمل، ومصرع شرطي ثالث ونجاته بأعجوبة.
وجه العنصرية
يختار مورك قضية اختفاء النائبة العامة ميريت ليبدأ بها عمله في “القسم كيو” ويمده قسم الشرطة بأكرم سالم اللاجئ السياسي السوري لمعاونته في العمل اللوجستي والإداري، لكن مورك يكتشف مهارته خلال تحليل سالم العرضي لأحد نقاط القضية المستعصية ليجربه في العمل معه كشرطي، ويعلم منه أنه كان أحد عناصر الشرطة السورية قبيل هروبه من أتون الحرب المستعرة في بلاده منذ سنوات.
وقد أبدع الفنان البريطاني (روسي الأصل) أليكسيج مانفيلوف في أدائه لدور السوري المسلم أكرم سالم ونجح في إلمامه بأدق تفاصيل شخصية المسلم المتدين، مثل اتقان أداء الصلاة الإسلامية وطريقة بسط وطي سجادة الصلاة.
يضم مورك روز الشرطية المهمشة وتجسدها الفنانة ليا بيرن، التي يقتنع بكفاءتها لفريق عمل “القسم كيو” ليبدأ الثلاثة محاولة تفكيك شيفرات لغز اختفاء ميريت لينغارد. يبدأ الفريق عمله بإمساك طرف الخيط الأول والمتمثل في تبرئة الملياردير الإسكتلندي غراهام فينش من تهمة قتل زوجته، ثم تتكشف خيوط دالة على تورط ستيفنسن رئيس النيابة العامة الإسكتلندية في ممارسة تهديدات على ميريت للحيلولة دون استدعائها باعتبارها إحدى الشاهدات على عنف المتهم فينش الشديد، الدائم مع زوجته.
في الوقت نفسه، يكشف العمل عن كون ميريت محتجزة من قبل مجهولين منذ أربع سنوات في حجرة للضغط العالي المخصصة لتدريب الغواصين، ويتضح في النهاية أن أحد عناصر الشرطة المتواطئين مع فينش كلف مريضين سيكوباتيين ذوي ميول عنيفة باحتجازها لإخفائها عن الأنظار أطول فترة ممكنة إلى حين نسيان أحداث قضيته.
وحرص سكوت فرانك على إبراز المهارات البوليسية للاجئ السوري أكرم سالم في إنقاذ النائبة العامة ميريت لينغارد وتصديه للمريضين السيكوباتيين المسلحين أثناء عملية إنقاذها، كرسالة قوية من العمل بأن اللاجئين والمهاجرين القادمين للغرب يمكن أن يمثلوا بأرصدتهم العقلية ومهاراتهم إضافة مهمة للمجتمعات التي لجؤوا إليها.
إشادات نقدية
حصد مسلسل “القسم كيو” على موقع Rotten Tomatoes الخاص بتقييم الأفلام والأعمال الدرامية العالمية تقييما إيجابيا مرتفعا بلغ 91 في المئة من النقاد، و88 في المئة من الجمهور، ووصفت صحيفة “غارديان” البريطانية المسلسل بأنه “تحفة درامية تتخطى سرديات الجريمة التقليدية إلى أعماق القضايا التي يعيشها المجتمع”، وامتدحت صحيفة “ذي تلغراف” البريطانية العمل، ووصفته بأنه “أفضل ما قدّم في مجال دراما الجريمة المعقدة منذ عقد”.
عبر حبكة جريمة وإثارة بوليسية محكمة قدم المسلسل رسائل قوية، تعزز وجوب تقبل المجتمعات الغربية للاختلافات العرقية، ونبذ أفكار اليمين المتطرف العنصرية، وعلاج الخلل الموجود في النظام القضائي البريطاني، فقد طرح سكوت فرانك مبدع العمل فلسفته بأنه لا سبيل أمام العالم المعاصر سوى التعايش، وتقبل الآخر المختلف عرقيا وأيديولوجيا للوصول إلى بر النجاة.