مؤسسة راشد آل خليفة للفنون في البحرين.. من بيت الطفولة إلى معبر فني عالمي

في الدول العربية مشاريع فنية وثقافية مهمة، تقودها عقول مدبرة تؤمن بأهمية الإنسان وبضرورة السعي الدائم للارتقاء بوعيه وذائقته، ومن هذه المشاريع مؤسسة راشد آل خليفة في البحرين، والتي انطلقت كبيت للطفولة لتصبح اليوم صرحا فنيا مهما وحلقة وصل بين مختلف الحضارات ومساهما كبيرا في التعريف بالبحرين.
في قلب منزلٍ تحوّل من مسكن عائلي إلى منصة فنية تحتفي بالإبداع المعاصر، تقع مؤسسة راشد آل خليفة للفنون، وهي مؤسسة غير ربحية تسعى إلى إتاحة الأعمال الفنية المعاصرة أمام الجمهور، وتمكين الفنانين، وتعزيز التبادل الثقافي. في هذا المكان تحديدا تبلورت ملامح الشغف المبكر للفنان البحريني راشد آل خليفة، والذي تحوّل من هواية طفولية إلى مسيرة فنية ناضجة لها بصمتها الخاصة في المشهدين العربي والدولي.
في مدينة الرفاع الغربي، جنوب البحرين، تقف مؤسسة راشد آل خليفة للفنون كصرح ثقافي يحتضن بين جدرانه تاريخا فنيا غنيا. المؤسسة، التي كانت بيت الطفولة للفنان البحريني راشد آل خليفة ويعود بناؤه إلى عام 1930، تم ترميمها بعناية بالتعاون مع مهندس معماري إيطالي، وفتحت أبوابها للزوار منذ عام 2020.
حافظ الترميم على الطابع المعماري التقليدي للبيت البحريني، وأضيفت إليه عناصر معمارية عصرية تُبرز جمال الفضاء دون أن تخل بخصوصيته التاريخية. ويُعتبر المبنى اليوم مثالا حيا على قدرة المساحات الخاصة على التحول إلى فضاءات عامة للثقافة والفن، إذ حافظ البيت على جدرانه الأصلية وأروقته ذات الأعمدة، وتحوّلت بعض الأجزاء المتبقية من الجدران الجصية القديمة إلى خلفيات جمالية تميز صالات العرض.
من أبرز المعالم التي تستقبل الزائر عند مدخل المؤسسة مجسم من الريزن للنحات الإسباني مانولو فالديس، من مجموعة Reina Mariana. العمل يحمل سمات أسلوب فالديس الذي يجمع بين الطابعيْن الكلاسيكي والتجريدي، ويعيد قراءة الرموز الملكية النسائية في التاريخ الأوروبي، من خلال تكوين ضخم ومتوازن يجسد الشخصية دون تفاصيل الوجه، تاركا للمشاهد مساحة للتأمل.
في الداخل تتجول بين مراحل مختلفة من تاريخ هذا البيت، كما تتجول بين طبقات من الذاكرة. غرفة النوم الخاصة بالشيخ راشد آل خليفة، والتي شُيّدت ضمن المرحلة الثانية من توسعة البيت في الستينات، أصبحت اليوم مكتبًا ومكتبة.
أما المرحلة الثالثة، وهي مبنى ذو طابقين أعيد بناؤه بالكامل عام 2014، فتتميز بسقوف عالية، وزخارف أنيقة، ونوافذ مرتفعة تسمح بانسياب الضوء وتعزز الطابع التأملي للمكان.
وكما هو مألوف في العمارة البحرينية التقليدية، تدور الأجنحة حول فناء مركزي، يتوسطه مجسم مكعب مزخرف ويحتضن أستوديو ومكتبا للفنان راشد آل خليفة. وفي عام 2020 أُنجز امتداد جديد للمبنى على هيئة صالة عرض حديثة بجدران بيضاء، ما أضاف بعدًا معاصرًا للمكان دون أن يُخل بجذوره التاريخية.
ومن المعالم اللافتة جدارية رسمها راشد آل خليفة وهو في السادسة عشرة من عمره. بعد عودته من المدرسة، وباندفاع فني عفوي، رسم على أحد الجدران، وحين اكتشفت والدته ذلك، غضبت، ما دفعه إلى مغادرة المنزل على دراجته الهوائية، لكن بقيت الجدارية حتى اليوم، شاهدة على شرارة الإبداع الأولى.
تضم المؤسسة ما يقارب ألفي عمل فني، من بينها أعمال تغطي كامل مسيرة الفنان راشد آل خليفة على مر مراحله المختلفة، بدءًا من أعماله المبكرة التي جسّدت المناظر الطبيعية البحرينية في أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي، مرورًا برسوم الشخوص، ثم تأثره بالمدرسة الانطباعية، فالفن التجريدي، وصولا إلى تجاربه المعاصرة على الألمنيوم، والتي أنتج فيها قطعًا فنية ومجسمات تتسم بالبساطة الهندسية والدقة الصناعية.
كما تضم المؤسسة مقتنياته الشخصية من أعمال فنانين عرب وعالميين. من بين هذه الأعمال منحوتة “رجل على حصان” للفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو، والتي تعكس أسلوبه المميز في تصوير الأشكال الضخمة والمستديرة، وتُجسد فارسا على صهوة جواد، ما يبرز اهتمامه بتصوير الحياة اليومية والرموز الثقافية بأسلوب ساخر وجذاب.
كما يبرز عمل للفنان الفرنسي إيف كلاين، يُجسد رؤيته الفريدة في استخدام اللون الأزرق الكثيف المعروف بـ”International Klein Blue (IKB)”.
وتحتضن مؤسسة راشد آل خليفة للفنون أعمالا للفنان العراقي الرائد ضياء العزاوي، المعروف باستخدامه للخط العربي في صياغات تجريدية تُستلهم من التراث والأساطير، مثل ملحمة جلجامش، التي تعكس جذوره الأكاديمية في علم الآثار، وتجربته الفنية الغنية بين الرسم والنحت والطباعة.
كما يُعرف العزاوي باستخدامه للخط العربي كعنصر بصري ضمن أعماله التجريدية، في إطار حركة الحروفية التي سعى من خلالها إلى تطوير لغة بصرية عربية موحدة.
وتفتح المؤسسة أبوابها للزوار ثلاثة أيام في الأسبوع، ويتم تنظيم الزيارات عبر الحجز المسبق من خلال الموقع الإلكتروني للمؤسسة، بما يضمن تجربة هادئة ومركزة لكل زائر. بيد أنها ليست مجرد صالة عرض، بل هي مساحة حوار بين الماضي والحاضر، بين الفن المحلي والعالمي، وبين الفنان وبيته الأول، الذي تحول إلى شهادة حية على التقاء الذاكرة بالإبداع، وجدارية واحدة كانت كفيلة بإعلان بداية حياة فنية طويلة.