الأمن الخليجي: إستراتيجيات الردع وسبل الاستقرار الإقليمي

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية – الإيرانية عن خسائر فادحة للنظام الإيراني على يد الجيش الإسرائيلي. لم تقتصر هذه الخسائر على الجوانب العسكرية فحسب، بل امتدت لتشمل عمليات استخباراتية وأمنية وعسكرية نوعية نفذتها إسرائيل في العمق الإيراني. هذه العمليات، التي استهدفت بنية تحتية حيوية، وشخصيات رئيسية، وبرامج حساسة، أظهرت بوضوح محدودية القدرات الدفاعية الإيرانية، والفشل البنيوي الذي يعاني منه نظامها السياسي والعسكري في حماية مصالحها الحيوية وكبح جماح النفوذ الإسرائيلي المتزايد في المنطقة، هذا الوضع اضطرت معه القيادة الإيرانية المرتعشة والفاقدة للبوصلة إلى إشهار ورقة زعزعة الاستقرار الإقليمي باستهداف دولة قطر ومعها كامل دول الخليج بمنظومتها الباليستية والصاروخية.
في ظل هذا الوضع تواجه منطقة الخليج العربي تحديات أمنية متزايدة، لاسيما في ظل التهديدات الإيرانية المستمرة التي تسعى للتلاعب باستقرار المنطقة والتأثير على ديناميكيات الأمن الإقليمي. هذه التهديدات ليست وليدة اليوم، بل هي جزء من عقيدة سياسية وعسكرية إيرانية طويلة الأمد ترتكز على أطروحة أيديولوجية بني على أساسها نظام الولي الفقيه تتمحور حول معاداة أميركا أو ”الشيطان الأكبر”، ويتجلى في سلوك عدواني متكرر يهدف إلى فرض نفوذ طهران الإقليمي وتغيير موازين القوى لصالحه خدمة لأجندته التوسعية.
◄ أمن الخليج اليوم هو مسؤولية جماعية تتجاوز الحدود الإقليمية. هو مسؤولية خليجية في المقام الأول، تتطلب تنسيقًا وتعاونًا غير مسبوقين بين دول المنطقة، كما أنه مسؤولية إقليمية ودولية
لقد تجلى هذا السلوك العدواني مؤخرًا في استهداف قاعدة العيديد الأميركية في قطر، وهي عملية لا يمكن فصلها عن الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الأوسع. هذا الاستهداف، بغض النظر عن الجهة التي تقف وراءه بشكل مباشر وهي منظمة الحرس الثوري التي أصبحت دولة داخل الدولة الإيرانية، يخدم بشكل مباشر الأجندة الإيرانية في العبث بديناميكيات الأمن الإقليمي والتأثير على عوامل الاستقرار في دول الخليج والعالم. هذا النوع من العمليات الاستعراضية يُذكّرنا بحرب الناقلات التي شهدتها الحرب الإيرانية – العراقية في ثمانينات القرن الماضي، حيث استهدفت إيران حينها السفن التجارية في الخليج بهدف تعطيل الملاحة والتأثير على الاقتصاد العالمي. هذا التشابه في الأساليب يؤكد أن السلوك العدواني الإيراني ليس تكتيكًا تفرضه التطورات الجيوسياسية فحسب، بل هو منهج سياسي وعسكري ثابت، ويزداد شراسة خاصة في ظل الهزائم الكبرى التي تعرض لها نظام طهران مؤخرًا، على يد الجيش الإسرائيلي حيث نفذ عمليات استخباراتية وأمنية وعسكرية في العمق الإيراني أظهرت المحدودية في القدرات والفشل البنيوي الكبير.
على ضوء ما سبق، يرتبط مفهوم الأمن الخليجي ارتباطًا وثيقًا بمفهومي الأمن الإقليمي والدولي. فالخليج العربي ليس مجرد بقعة جغرافية تضم دولا تطل على بحر إقليمي، بل هو شريان حيوي للاقتصاد العالمي، كونه يضم أكبر احتياطيات النفط والغاز، ويمر عبره جزء كبير من التجارة العالمية ويضم أكبر الموانئ العالمية في التجارة الدولية. بالتالي، فإن أي اضطراب في أمن هذه المنطقة ستكون له تداعيات كارثية على الاقتصاد العالمي والاستقرار الدولي.
الأكيد أن انهيار منظومة الأمن الإقليمي في الخليج سيهدد إمدادات الطاقة العالمية، ويزيد من تقلبات الأسواق، ويؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، ما قد يدفع الاقتصاد العالمي إلى ركود عميق وأزمات قطاعية كبرى. فضلًا عن ذلك، إن زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة الحساسة قد تغذي التطرف والإرهاب والجماعات المسلحة الفاعلة، وتخلق بؤر صراع جديدة، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن والسلم الدوليين والإقليميين. في ظل هذه التهديدات أثبتت المقاربة الإماراتية والسعودية نجاعتها في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، من خلال تطوير آليات استجابة فاعلة، واليقظة الإستراتجية والتحرك الاستباقي المستمر والفهم الدقيق والتحليل العميق للتطورات العسكرية والسياسية حيث تمكنت هاتان الدولتان إلى جانب شركائهما الإقليميين من احتواء جزء كبير من العربدة الإقليمية الإيرانية. وتُعد عملية عاصفة الحزم مثالًا ساطعًا على هذه النجاعة، حيث أوقفت العملية بشكل حاسم محاولة التطويق الإستراتيجي الإيراني لدول الخليج عبر اليمن، وأعادت بعضًا من التوازن للمشهد الإقليمي زمن سطوة الجنرال قاسم سليماني مهندس الخراب الإقليمي عبر ميليشيا فيلق القدس وتنظيماته الموازية.
◄ دون معالجة هذه الجذور الأساسية للسلوك العدواني الإيراني، سيبقى السلام في الخليج هشًا ومعرضًا للتهديد المستمر ولأهواء حمقى طهران
في المقابل، تلعب الدبلوماسية الهادئة العمانية دورًا مركزيًا في تقريب وجهات النظر وبناء أرضية مشتركة لتجسير الهوة الأيديولوجية بين الأطراف المتنازعة. حيث تسعى مسقط إلى بناء تصور مستدام لأمن خليجي قوي قائم على الحوار والتفاهم والسلام والوساطة الفاعلة بعيدًا عن الصراعات المباشرة. هذا الدور المحايد والموثوق به يجعل من عمان وسيطًا فعالًا في تخفيف التوترات وفتح قنوات الاتصال، ما يسهم في استقرار المنطقة على المدى الطويل، ويكمل الأدوار الأخرى.
وعلى هذا الأساس، الراجح أن تلعب اتفاقات أبراهام دورًا مهمًا في الحفاظ على التوازنات الإقليمية. هذه الاتفاقات، التي ساهمت في تطبيع العلاقات بين بعض الدول الخليجية وإسرائيل، تفتح آفاقًا جديدة للتعاون الأمني والاستخباراتي، ما يعزز القدرة على مواجهة التهديدات المشتركة، وفي مقدمتها التهديد الإيراني. هذا التعاون يمكن أن يخلق جبهة موحدة لمواجهة التحديات الإقليمية، ويساهم في بناء استقرار أطول أمدًا، متجاوزًا الانقسامات التقليدية. وعليه فانضمام دول أخرى خليجية لهذه الاتفاقات سيساهم اليوم في إعادة صياغة قواعد الاشتباك الإقليمية التي دمرتها الضربات الإيرانية على قاعدة العيديد.
بالإضافة إلى ذلك، تُعد الشراكة الإستراتيجية مع الحليف الأميركي ركيزة أساسية للأمن الخليجي. فالوجود العسكري الأميركي في المنطقة، والدعم اللوجيستي والاستخباراتي الذي يقدمه، يمثلان عامل ردع مهمًا ضد أي اعتداءات محتملة. حيث تُعد التدريبات العسكرية والمناورات المشتركة بين دول الخليج والولايات المتحدة حجر الزاوية في تعزيز القدرات الدفاعية والردعية للمنطقة. هذه التدريبات، مثل “مناورات درع الخليج” و”المدافع الحديدي” و”الصقر الحديدي” تهدف إلى صقل المهارات العسكرية، وتبادل الخبرات، وتحسين التنسيق بين القوات المشاركة في مجالات متعددة مثل الدفاع الجوي، والعمليات البحرية، ومكافحة الإرهاب. كما تسهم هذه المناورات في إظهار الالتزام الأميركي بأمن المنطقة، وتعزيز قابلية التشغيل البيني بين الجيوش الخليجية والقوات الأميركية، ما يبعث برسالة ردع واضحة لأي جهة تسعى لزعزعة الاستقرار في الخليج؛ وفي ما يتعلق بمستقبل هذه الشراكة، فإن إمكانية انضمام مجلس التعاون الخليجي لحلف شمال الأطلسي “الناتو” في السنوات القادمة سواء كشريك إستراتيجي أو كعضو كامل، وإن تبدو غير واردة حاليًا، إلا أنها قد توفر مظلة أمنية وعسكرية أقوى لدول الخليج، وتدمجها بشكل أكبر في المنظومة الأمنية الدولية، مما يعزز من قدرتها على مواجهة التحديات الجيوسياسية المعقدة بفعالية أكبر.
◄ منطقة الخليج العربي تواجه تحديات أمنية متزايدة، لاسيما في ظل التهديدات الإيرانية المستمرة التي تسعى للتلاعب باستقرار المنطقة والتأثير على ديناميكيات الأمن الإقليمي
من ناحية أخرى، لا يمكن فصل أمن الخليج عن أمن المنطقة الأوسع، ولهذا، فإن دور دول الإسناد الإستراتيجي سياسيا وأمنيا وعسكريا، وفي مقدمتها المملكة المغربية من منطلق أخوي والتزام صادق ومسؤولية تاريخية، يصبح حيويًا وله أهمية كبرى. الأمن الخليجي لا يبدأ وينتهي في مضيق هرمز، بل يمر عبر مضيق جبل طارق مرورا بمضيق باب المندب، وهذا يعكس الترابط الجيوستراتيجي للمنطقة مع محيطها، هذا يعني أن أي زعزعة للاستقرار والسلام في الخليج العربي قد يصل تأثيرها إلى شمال أفريقيا أو غرب المتوسط و العكس صحيح، وهي حقيقة تؤكدها المواقف الحازمة للعاهل المغربي الملك محمد السادس إزاء أي تحرك إيراني يستهدف استقلالية وسيادة الدول الخليجية، وخير مثال قطع علاقات المملكة المغربية – الإيرانية رفضا لتصريحات تمس استقلال مملكة البحرين الشقيقة وغيرها من المواقف الداعمة لدول مجلس التعاون الخليجي. وبالتالي فإن تطوير الشراكات الإستراتيجية لتأخذ أبعادًا تكاملية أكثر، وتوسيع نطاق التعاون الأمني والدفاعي ليشمل دولًا مثل المغرب، يصبحان ضرورة حتمية للحفاظ على أمن الخليج بشكل شمولي وفعال.
وعلى صعيد آخر، بعيدًا عن الصورة النمطية المتوارثة من زمن التأسيس، تشهد المنظومة العسكرية والأمنية الخليجية، وخاصة في الإمارات والسعودية، تطورًا هامًا وملحوظًا. حيث استثمرت هذه الدول بشكل منهجي في تحديث جيوشها، وتطوير قدراتها الدفاعية والهجومية، واقتناء أحدث التقنيات العسكرية. هذا التطور لا يقتصر على شراء الأسلحة فحسب، بل يشمل أيضًا تدريب القوات، وتطوير الصناعات العسكرية المحلية، وبناء إستراتيجيات دفاعية حديثة قادرة على مواجهة التهديدات المعاصرة. هذه القفزة النوعية في القدرات العسكرية تعزز من قوة الردع لدول الخليج، وتقلل من اعتمادها على القوى الخارجية بشكل كبير.
ختامًا، أمن الخليج اليوم هو مسؤولية جماعية تتجاوز الحدود الإقليمية. هو مسؤولية خليجية في المقام الأول، تتطلب تنسيقًا وتعاونًا غير مسبوقين بين دول المنطقة، كما أنه مسؤولية إقليمية ودولية بالنظر إلى الأهمية الإستراتيجية للخليج ولتأثيرات اقتصاديات دوله على الاقتصاد العالمي. فتثبيت السلام في هذه المنطقة ليس مجرد خيار، بل هو مطلب إقليمي ودولي له راهنيته القصوى، ولتحقيق ذلك، يجب أن يكون تقليم أظافر النظام الإيراني بتدمير برنامجه الصاروخي والباليستي، وتفكيك تشكيلاته وميليشياته الإقليمية وبشكل خاص تطهير مضيق باب المندب من ميليشيا الحوثي الإرهابية، جزءًا أساسيًا من أي توافق مستقبلي أو اتفاق إقليمي. فدون معالجة هذه الجذور الأساسية للسلوك العدواني الإيراني، سيبقى السلام في الخليج هشًا ومعرضًا للتهديد المستمر ولأهواء حمقى طهران.
اقرأ أيضا:
• اصطياد العقول النووية في إيران، في المعنى والمضمون والتداعيات