طريق مجتبى خامنئي لحكم إيران: حرب شاملة أم تطبيع كامل

شهدت الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات تحولات مفصلية في بنية السلطة الإيرانية مهّدت الطريق لعلي خامنئي لتولي منصب المرشد الأعلى بعد وفاة روح الله الخميني. فمن خلال تعديلات دستورية أُلغي بموجبها توفر درجة “آية الله” لتولي هذا المنصب، استطاع خامنئي إحكام قبضته على الحكم لعقود. في عهده، تحوّل الحرس الثوري الإيراني من مجرد ميليشيا ثورية إلى قوة ضاربة وإلى دولة داخل الدولة الإيرانية، حيث لعب دورًا حاسمًا في ترسيخ أركان النظام الجديد عبر تصفية كل من ثبت ولاؤه سابقا للحكم البهلوي، بما في ذلك إعدام المئات من جنرالات الجيش الإمبراطوري وكبار مسؤولي نظام الشاه بهدف القضاء على أيّ تهديد محتمل لانقلاب أو ثورة مضادة.
على غرار ما حدث في الثمانينات، يُنظر إلى الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الأخيرة على أنها تمثل فرصة ذهبية أمام مجتبى خامنئي لتولي مقاليد الحكم في إيران. ففي ظل حالة الاستثناء التي تفرضها ظروف الحرب، من الوارد جدا في إطار صراع الأجنحة داخل النظام الإيراني استغلال هذه الأوضاع لتمهيد طريقه نحو السلطة، مستفيدًا من التحول الجيلي الذي تشهده القوات المسلحة الإيرانية، خاصة قيادة الحرس الثوري، نتيجة للضربات العسكرية والاغتيالات الإسرائيلية التي أحدثت تغييرات جوهرية في صفوفها. هذه الظروف قد تتيح لمجتبى خامنئي الانتقال السلس إلى منصب المرشد الأعلى، مدعومًا بديناميكية جديدة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية.
الوفاة الغامضة للرئيس السابق إبراهيم رئيسي، والذي كان يُعتبر مرشحاً بارزاً وحليفاً لخامنئي، وعملية التحول الجيلي في قيادة الجيش وللحرس الثوري قد أزالت عقبة كبيرة أمام مجتبى، ما جعل طريقه إلى ولاية الفقيه مفروشا بتعيين قيادات جديدة لها ولاء كامل له
منذ بداية التصعيد العسكري الأخير، شهدت إيران سلسلة غير مسبوقة من الاغتيالات التي استهدفت نخبة القيادات العسكرية والعلمية وبشكل خاص قيادات الحرس الثوري، من بين أبرز الضحايا كان اللواء حسين سلامي قائد الحرس الثوري الإيراني، واللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى العميد أمير علي حاجي زاده قائد القوات الجو-فضائية، واللواء غلام علي رشيد رئيس مقر “خاتم الأنبياء” المقر العام للحرس الثوري. كما شملت الاغتيالات محمد كاظمي رئيس استخبارات الحرس الثوري، ونائبه حسن محقق، ومحسن باقري. وفي تطور لافت، اغتيل علي شادماني رئيس أركان الحرب الجديد، بعد 56 ساعة فقط من تعيينه. ولم تقتصر هذه الهجمات على القيادات العسكرية، بل طالت أيضًا عددًا من العلماء والخبراء النوويين البارزين المرتبطين بشكل مباشر بقيادة الحرس الثوري، منهم فريدون عباسي (الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية)، ومحمد مهدي طهرانجي (عالم نووي ورئيس جامعة آزاد الإسلامية)، إلى جانب عبدالحميد منوشهر، وأحمد رضا ذوالفقاري، وأمير حسين فقهي، ومطلب زاده. هذه الاغتيالات المكثفة تُشير إلى تحول نوعي في إستراتيجية المواجهة حيث عمدت إسرائيل إلى تغيير قيادة الحرب في الـ72 ساعة الأولى من المواجهة بهدف تحقيق الإرباك الإستراتيجي داخل صفوف القيادة الإيرانية.
المشهد الإيراني الراهن يتجاوز حدود الصراع التقليدي ليتحول إلى ما يمكن وصفه بـ”حرب الظلال”، حيث تتداخل المعلومة الدقيقة واليد الطويلة لتشكيل ساحة معركة غير مرئية. هذه العمليات، التي طالت أيضاً شخصيات سياسية أمنية رفيعة مثل علي شمخاني، تبعث برسالة واضحة مفادها أن زمن الحصانة قد انتهى وأن العمق الإيراني مكشوف تماماً، ما يثير تساؤلات حادة حول مدى الاختراق الأمني ويثير مخاوف عميقة لدى عامة الشعب الإيراني حول مدى قدرة دولتهم على حماية أمنها القومي وأفرادها.
في المقابل، يظهر الجانب الإسرائيلي في هذه المواجهة ببراعة لافتة، مسلحاً بثبات انفعالي ملحوظ وضربات عسكرية نوعية إستراتيجية. فـ”عملية الأسد الصاعد” التي أطلقتها إسرائيل في الثالث عشر من يونيو، لم تكن مجرد هجوم عسكري، بل كانت تجسيداً لدمج سنوات من التحضير الاستخباراتي مع قدرات العمليات الخاصة، محققة بذلك مفاجأة إستراتيجية وتأثيراً مدمراً ضد البرنامج النووي الإيراني وقيادته العسكرية. هذا النهج، الذي يركز على “ضربات قطع الرأس” لتعطيل عملية صنع القرار لدى الخصم وإحداث شلل نفسي، يعكس عقيدة عسكرية متطورة تتجاوز الردع التقليدي إلى إعادة تشكيل القيادة لتحديد العقيدة القتالية للحرب.
المواجهة أدت إلى تحول جذري في بروتوكول الرد الإستراتيجي الإيراني. فبعد عقود من الاعتماد على حرب الوكالة عبر شبكة من الميليشيات الإقليمية كحزب الله وحماس والحشد الشعبي والحوثيين، انتقل الحساب الإيراني من الاعتماد على الغموض الإستراتيجي إلى المواجهة المباشرة والضعف العلني. هذا التحول تجلى في إطلاق إيران رشقات صاروخية مكثفة ومباشرة على المدن الإسرائيلية، ما يمثل تصعيداً غير مسبوق في تاريخ المواجهة بين الطرفين. ورغم أن هذه الرشقات الصاروخية أحدثت أضراراً وخسائر بشرية، إلا أن حجم الدمار الذي لحق بالمنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، بما في ذلك منشأة نطنز ومواقع الصواريخ في كرمانشاه وتبريز والقواعد الجوية في محيط العاصمة طهران، يشير إلى أن الرد الإيراني، رغم قوته الظاهرية، لم يوازِ حجم الاختراق والضرر الذي لحق بالهيكل الأمني والعسكري لطهران.
تتزامن هذه التحديات الأمنية الخارجية مع معضلة خلافة المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، التي تلوح في الأفق. فمع تقدمه في العمر وتزايد التكهنات بشأن صحته، يبرز اسم ابنه الثاني، مجتبى خامنئي، كمرشح رئيسي محتمل لخلافة والده. ورغم عدم توليه أيّ مناصب سياسية رسمية، فقد عمل مجتبى لسنوات كمستشار موثوق لوالده في مكتب المرشد الأعلى، مكتسباً نفوذاً واسعاً لدرجة وصفه بـ”سلطة الظل” أو “الرجل الخفي” داخل صالونات العاصمة. ويتعزز نفوذه بشكل كبير بفضل علاقاته الوثيقة بالحرس الثوري الإيراني وأجهزة الاستخبارات، حيث خدم في الحرس خلال الحرب العراقية – الإيرانية وأقام علاقات مع شخصيات أمنية رئيسية، كما يُعتقد أنه يسيطر على إمبراطورية تجارية واسعة تقدر بـ95 مليار دولار، ما يوفر له موارد مستقلة ويعزز نفوذه، وقد بدأت بعض وسائل الإعلام المحسوبة على النظام مؤخراً في الإشارة إليه بلقب “آية الله”، في محاولة لتعزيز مؤهلاته الدينية التي تُعد شرطاً مسبقاً لمنصب المرشد الأعلى.
المشهد الإيراني الراهن يتجاوز حدود الصراع التقليدي ليتحول إلى ما يمكن وصفه بـ"حرب الظلال"، حيث تتداخل المعلومة الدقيقة واليد الطويلة لتشكيل ساحة معركة غير مرئية
تُناط مهمة اختيار المرشد الأعلى بمجلس خبراء القيادة، وهي هيئة دستورية تتألف من الفقهاء ورجال الدين. ورغم أن أعضاء المجلس يُنتخبون بالاقتراع الشعبي المباشر، إلا أن أهلية المرشحين يتم فحصها مسبقاً من قبل مجلس صيانة الدستور. وقد أفادت تقارير أن لجنة سرية داخل مجلس الخبراء حددت ثلاثة مرشحين محتملين للخلافة ورتبتهم حسب الأولوية، ويُعتقد أن مجتبى خامنئي يتصدر هذه القائمة. ومع ذلك، فإن “مشروع التوريث” هذا يواجه عقبات كبيرة، أبرزها معارضة المرشد الأعلى نفسه لفكرة التوريث، بالإضافة إلى قيادات رفيعة في الحرس الثوري والجيش الإيراني ودهاقنة المرجعيات الدينية في قم.
كما أن الوفاة الغامضة للرئيس السابق إبراهيم رئيسي، والذي كان يُعتبر مرشحاً بارزاً وحليفاً لخامنئي، وعملية التحول الجيلي في قيادة الجيش وللحرس الثوري نتيجة الضربات العسكرية الإسرائيلية قد أزالت عقبة كبيرة أمام مجتبى، ما جعل طريقه إلى ولاية الفقيه مفروشا بتعيين قيادات جديدة لها ولاء كامل له.
إن المشهد الإيراني الراهن، المتسم بصراع داخلي وديناميكيات إقليمية متغيرة، يضع طموح مجتبى خامنئي الشخصي في خلافة والده أمام تحديات غير مسبوقة. ففي ظل الضغوط الهائلة التي تفرضها “حرب الظلال” وتداعيات الضربات الإسرائيلية الموجعة، قد يجد مجتبى نفسه مضطرًا لتقديم تنازلات كبرى من أجل إحكام قبضته على السلطة وتأمين استقرار النظام لتحقيق انتقال سلس للسلطة، هذا الطموح، الذي يُنظر إليه على أنه محرك رئيسي لأيّ تحركات مستقبلية، قد يدفعه للتفاوض حول تفكيك محتمل للبرنامج النووي والصاروخي الإيراني، في خطوة قد تُعتبر جذرية لكنها ضرورية بالنسبة إليه لتخفيف الضغط الدولي والعقوبات الاقتصادية الخانقة. هذا التوجه قد يمهد الطريق لإعادة صياغة شاملة للسياسة الخارجية الإيرانية، بما في ذلك إلغاء عقيدة “تصدير الثورة” التي أرهقت كاهل البلاد وعزلتها إقليميًا ودوليًا.
بالتوازي، ولتحقيق طموحه الشخصي في تثبيت أركان حكمه، قد تكون الخطوة الأكثر جرأة التي يضطر مجتبى للقيام بها هي تفكيك كامل لمنظمة الحرس الثوري الإيراني بأذرعها المختلفة، هذه المؤسسة التي تعاظمت لتصبح دولة داخل الدولة. هذا التفكيك لن يقتصر على إدماج عناصرها في القوات المسلحة الإيرانية النظامية فحسب، بل سيمتد ليشمل تحويل أصولها المادية الهائلة لصالح الدولة الإيرانية لتعزيز الاقتصاد المنهك وتفكيك التشكيلات العسكرية التابعة للحرس الثوري خارج إيران، والتي استنزفت موارد البلاد وأدت إلى مواجهات إقليمية ودولية أثرت على تموقع إيران الجيوسياسي في الخارطة الدولية لتتحول إلى دولة مارقة.
فوصول مجتبى وفق اتفاق إقليمي ودولي إلى سدة الحكم، إذا ما تحقق، لن يكون مجرد تغيير في القيادة، بل قد يمثل نقطة تحول مفصلية في تاريخ الجمهورية الإسلامية قد ينتهي بتطبيع كامل لعلاقاتها مع محيطها الإقليمي.