الخطاب الملكي المغربي في القمة العربية: رؤية متجددة لعمل عربي مشترك

لا يمكن قراءة خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس رائد العمل العربي المشترك في القمة الرابعة والثلاثين لجامعة الدول العربية بمعزل عن الإطار المرجعي العام للسياسة الخارجية للمملكة المغربية، المُؤَسَّسَة على عقيدة دبلوماسية راسخة داعمة للشرعية الدولية والقانون الدولي، وصادقة في دعمها لجهود السلام والاستقرار في العالم، وصارمة في حماية الأمن القومي للمملكة والترافع عن القضايا الإستراتيجية للبلاد، مع العمل على التنزيل الدقيق للرؤية الملكية في العمل الدبلوماسي، التي تُعتبر اليوم مرجعا إقليميا ودوليا في صياغة القرار الدبلوماسي وفق تصور واضح يجمع مهارة إدارة المصالح وتدبير التفاوض، حيث تجمع بين الحكمة والمرونة، وبين المصالح الوطنية العليا غير القابلة للتفاوض، والمبادئ الأخلاقية والإنسانية التي تُعتبر فطرة خالصة للشعب المغربي، في مسارات دبلوماسية متميزة ومتجددة وفعالة، وفق مقاربة استباقية ومتفاعلة مع القضايا الشاملة على أساس من التوازن والواقعية والنجاعة.
الخطاب الملكي حدّد بوضوح متطلبات المرحلة عربيا، وفق تشخيص دقيق من خلال تناول ثلاثة ملفات لها راهنيتها لتأثيرها التفاعلي على محددات الأمن القومي العربي المشترك: القضية الفلسطينية بتشعباتها الإقليمية والدولية، ودعم القضايا العربية والدعوة إلى العمل على حلّ الأزمات العربية من خلال الانكباب على ورش إصلاح الجامعة العربية، وتطوير العمل العربي المشترك لتأسيس نموذج اقتصادي جديد يضمن تحقيق التكامل العربي المنشود.
◄ قرار إعادة فتح السفارة المغربية في دمشق لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية... بل هو تعبير عن رغبة حقيقية لتعزيز العلاقات التاريخية المغربية – السورية
في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أكد الخطاب الملكي على الموقف الثابت للمملكة المغربية إزاء الدفاع عن القضايا العادلة في الملف الفلسطيني. حيث إن المواقف المغربية منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر إلى اليوم، والتي تضمنتها العديد من بلاغات الديوان الملكي وبيانات وتصريحات وزارة الخارجية المغربية، تعكس رؤية سياسية واضحة للمملكة إزاء هذا الملف، بعيدا عن المزايدات السياسية المتجاوزة والخطاب الإعلامي التعبوي. إذ عبّرت المملكة في أكثر من مناسبة عن إدانتها الشديدة للأعمال العدائية التي تستهدف المدنيين وعمليات التهجير القسري، وغيرها من الفظائع التي ارتكبتها آلة الحرب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر. وتترجم حرص الفاعل المؤسساتي في المغرب على انسجام مواقفه السياسية والدبلوماسية مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان، بعيدا عن المقاربات الجيوسياسية المتجاوزة والمصالح السياسية الضيقة.
الخطاب الملكي وضع خارطة طريق متكاملة خماسية الأبعاد لإحياء عملية السلام، من خلال إطلاق حوار سياسي عبر قنوات إقليمية موثوقة، وبشكل متوازٍ مع وقف إطلاق النار لدفع عملية السلام نحو هدفها لإقرار سلام عادل للجميع. كما شدّد على ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة تضم قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، ودعم جهود إعادة الإعمار دون تهجير سكان غزة، وفق القرارات الأممية ذات الصلة، مع دعم جهود المصالحة الوطنية، والتأكيد على الدعم الكامل لمؤسسات السلطة الفلسطينية تحت قيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ما سيشكل مدخلا أساسيا لتحقيق الاستقرار الإقليمي ونزع فتيل حرب شاملة.
المملكة المغربية تتحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، اعتمادا على منطلقات رئيسية يُحددها الموقف المغربي الثابت من الحق المشروع للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، ورئاسة الملك محمد السادس للجنة القدس باعتبارها آلية إسلامية تقوم بدورٍ محوري في الحفاظ على المقدسات الدينية في القدس. والأكيد أن مواقف المملكة المغربية واضحة وصريحة، في أن أيّ تسوية إقليمية تخص الشرق الأوسط تمرّ أساسا من خلال الحفاظ على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، والمتمثلة في دولة مستقلة بعاصمتها القدس، وباقي الحقوق التي تؤطرها القرارات الأممية ذات الصلة.
وانطلاقا من الفهم الدقيق والتحليل الرصين للعقل الإستراتيجي المغربي للمرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة العربية، في ظل المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، فقد أكد ملك المغرب على ضرورة الانكباب على معالجة القضايا العربية الراهنة، وتوفير الإرادة السياسية الصادقة لبناء تصور عربي مشترك يحترم السيادة الوطنية للدول ووحدتها الترابية. وعلى هذا الأساس، أكد ملك المغرب استعداد المملكة لاستكمال ورش إصلاح الجامعة العربية، من أجل الدفع بالعمل العربي متعدد الأطراف لمواجهة الأزمات، وخدمة القضايا المشتركة العادلة، وفي مقدمتها قضايا السلام والأمن العالمي والإقليمي، والتغيرات المناخية، والتنمية المستدامة، وتدفقات الهجرة، والتحديات الأمنية، وخاصة الإرهاب، والتطرف العنيف، والاتجار بالبشر.
وهذا لن يتحقق إلا من خلال تبني رؤية واقعية تؤمن بالبناء المشترك ومبادئ الوحدة والتكامل والتنمية العربية المشتركة، والتزام مبادئ حسن الجوار، واحترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدول العربية، وتجنب التدخلات الخارجية، وعدم السماح بزرع نزعات التفرقة، وتجاوز مقاربات الانفصال داخل المنظومة العربية، وتفعيل آليات التعاون والتنسيق بين مختلف الأطراف العربية الحكومية والشعبية والفكرية، من أجل الوصول إلى توافق عربي حول الرؤية والأهداف والآليات.
◄ الخطاب الملكي حدّد بوضوح متطلبات المرحلة عربيا، وفق تشخيص دقيق من خلال تناول ثلاثة ملفات لها راهنيتها لتأثيرها التفاعلي على محددات الأمن القومي العربي المشترك
تعطيل اتحاد المغرب العربي، كفضاء مغاربي يعزز التعاون والحوار بين دول المنطقة في إطار المشتركات الممكنة ويساعد على حل النزاعات والإشكالات الإقليمية، يظل أحد المشاكل الحقيقية التي تواجه المنطقة المغاربية باعتبارها الجناح الغربي للعالم العربي. حيث تُفوّت سياسات النظام الجزائري فرصا حقيقية للاندماج والتكامل الاقتصادي بين الدول الخمس، في إطار فضاء إقليمي قويّ قادر على تحقيق طموحات شعوبه في التنمية المستدامة والأمن والسلام.
في خضم الأزمات المتعددة التي تعاني منها دول عربية، تقدم المملكة المغربية نفسها، من خلال الخطاب الملكي، كفاعل مؤثر بشكل إيجابي، يسعى بثبات إلى تعزيز أسس الحوار والمبادرات السياسية السلمية. وهذا ما تجسد في التزام المغرب بتسوية الخلافات والوساطة الناجعة في الأزمة الليبية، ورأب الصدع في الأزمة السورية، ما يعكس بشكل جليّ روح التعاون والتآزر التي تحتاجها دول المنطقة في هذه الفترة العصيبة، التي تشكل تهديدا وجوديا لشعوبها.
قرار إعادة فتح السفارة المغربية في دمشق لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية في إطار تهافت سياسي عرفته دمشق منذ سقوط النظام السابق، بل هو تعبير عن رغبة حقيقية لتعزيز العلاقات التاريخية المغربية – السورية. كما أن اهتمام الفاعل المؤسساتي في المغرب بآليات تدبير الأزمات التي تهدد دول وشعوب اليمن والسودان ولبنان يؤكد على انخراطه الدائم في دعم الحلول السياسية لتحقيق الاستقرار والحفاظ على ميكانيزمات الأمن العربي.
خطاب الملك محمد السادس في القمة الذي تلاه وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة يجسد التزام المملكة المغربية بقضايا الشعوب العربية من أجل تحقيق التنمية الشاملة للشعوب العربية، من خلال البحث عن أرضية عمل إقليمية مشتركة وفق رؤية إقليمية بمقاربة عربية خالصة قائمة على مواجهة الأزمات والمخاطر والتهديدات الأمنية، بالاعتماد على الحوار العربي الموسع لإبداع حلول تعتمد على حل إشكالية التهديدات وتكريس مبدأ “الموقف العربي الموحد” إزاء الحلول المقترحة للإشكالات المهددة للأمن البشري في المنطقة، بتنسيق الجهود وتشريك كل الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية بشكل خاص في مناطق التماس الجيوسياسي مع المحاور الدولية كفلسطين واليمن ولبنان والسودان وليبيا، وهو ما تجسده الرؤية الملكية للعمل العربي المشترك وفق مقاربة مغربية شاملة تنطلق من تشجيع مبادرات السلام ودعم مقومات الحوار والتنمية المستدامة والأمن المستدام.