كيسنجر كان مُحقاً: صراع إيران بداية لكل شيء

القيادة الإيرانية تُدرك أن قوتها العسكرية رغم تطورها في بعض الجوانب لا تزال بعيدة عن منافسة القوة التدميرية الأميركية والإسرائيلية المشتركة خاصة في سياق حرب تقليدية واسعة النطاق.
الثلاثاء 2025/06/24
لا خيار سوى تجرع السم

يسجل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط تصعيدًا غير مسبوق عنوانه العريض التعقيد الإستراتيجي، مع تحول المواجهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، إلى مرحلة العمليات العسكرية المباشرة. فبعد سلسلة من الضربات الجوية المركزة التي شنتها الولايات المتحدة على ثلاث منشآت نووية إيرانية حيوية، ردت طهران بإجراءات تصعيدية شملت تهديد مضيق هرمز وإطلاق صواريخ باليستية نحو إسرائيل. هذه التطورات لا تُشير فقط إلى تآكل خطوط التماس التقليدية للصراع، بل تُبرز أيضًا الطبيعة المعقدة والمتشابكة للمخاطر في المنطقة، حيث تتداخل الأهداف النووية مع القدرات الصاروخية وشبكات الوكلاء الإقليميين، ما ينذر بعواقب وخيمة تتجاوز الحدود الجغرافية إلى كارثة إنسانية متعددة الأبعاد.

في هذا السياق المتوتر، تبدو المنطقة وكأنها على شفا حافة تصعيد أوسع نطاقًا، يعيد إلى الأذهان تحذيرات الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر، الذي أشار ذات مرة إلى أن “الحرب مع إيران لن تكون نهاية لأيّ شيء، بل ستكون بداية لكل شيء.” هذه المقولة تكتسب اليوم رنينًا خاصًا، فبينما تسعى واشنطن وتل أبيب لتحييد القدرات النووية والعسكرية الإيرانية، فإن التداعيات المحتملة لأيّ صراع شامل قد تتجاوز الأهداف المحددة لتُطلق العنان لسلسلة لا يمكن التنبؤ بها من الأحداث.

قبل التطرق إلى الهجوم الأميركي على المنظومة النووية الإيرانية لا بد من الإشارة إلى أن القوات الإسرائيلية لا زالت مستمرة في حملتها الجوية المركزة ضد البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني وقدرات المسيّرات، في مسعى حثيث لتقويض قدرة طهران على الرد. منذ تاريخ 20 يونيو 2025، شن سلاح الجو الإسرائيلي موجة جديدة من الضربات على بنى تخزين وإطلاق الصواريخ الباليستية، حيث أفادت التقارير بوقوع ضربات إسرائيلية قرب قيادة تدريب الإمام علي التابعة للحرس الثوري الإيراني في شيراز، بالإضافة إلى لقطات تُظهر تداعيات ضربة على قاذفة صواريخ في كرمانشاه، امتدت لتشمل قيادات عليا في الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، في إستراتيجية تُعرف بـ”استئصال الرأس” لتعطيل شبكات الدعم الإيرانية، حيث تُشير التطورات الأخيرة إلى مقتل قائد الوحدة 190 في الحرس الثوري الإيراني، بهنام شهرياري، المسؤول عن نقل الأسلحة والأموال إلى ما يسمى بـ”محور المقاومة”، بما في ذلك حزب الله. كما قُتل مسؤول ملف فلسطين في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني سعيد أزادي، ويتولى الإشراف على كل أشكال الدعم العسكري والمالي للفصائل الفلسطينية، إضافة إلى إدارة عمليات التدريب والتجنيد والتنسيق الأمني مع قيادات تلك الفصائل وقد كان حلقة وصل رئيسية بين إيران وحماس ويُعتقد أنه أحد “مهندسي” هجوم 7 أكتوبر.

◄ الخضوع للضغوطات الأميركية وتقديم تنازل كامل وعلنيّ عن البرنامج الصاروخي والباليستي والنووي هو المسار الأكثر أمانا للحفاظ على سيطرة نظام الولي الفقيه على السلطة في طهران

في سياق متصل، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل قائد الفوج الثاني للطائرات دون طيار التابع للقوة الجو-فضائية في الحرس الثوري الإيراني، أمين بور جوداكي، حيث صرح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بأن القوات الإسرائيلية استهدفت ما يقرب من 950 طائرة دون طيار متفجرة داخل إيران قبل إطلاقها. تُعد هذه الاستهدافات دلالة على النقاط الحيوية التي يسعى الجيش الإسرائيلي لضربها لتقليل التهديد الإيراني، بالرغم من أن الحرس الثوري يمتلك هيكلاً هرمياً يمكّنه من تجاوز مثل هذه العمليات دون تعطيل طويل الأمد.

في نفس السياق شنت الولايات المتحدة ضربات جوية متزامنة ومركزة على ثلاث منشآت نووية إيرانية، مستخدمة قنابل اختراق التحصينات. هذه العمليات أدت إلى “أضرار بالغة وقصوى” وفقًا للتقارير الأميركية. على الرغم من ذلك، تُشير التقييمات الأولية من الجانب الإسرائيلي إلى أن منشأة فوردو لتخصيب الوقود (FEEP) لم تُدمّر بالكامل، وإن تعرضت لأضرار جسيمة، ما يعني أن قدراتها التشغيلية قد تضررت بشكل كبير، لكن بنيتها التحتية الأساسية لا تزال قائمة.

كان الهدف من هذه الضربات تعطيل قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم، خاصة وأن فوردو كانت تنتج كميات كافية لبناء قنبلة نووية شهريًا. بالإضافة إلى ذلك، استُهدف موقع نطنز النووي. وشملت العمليات أيضاً ضرب موقع نووي غير محدد في أصفهان بصواريخ كروز، يُرجّح أنه مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية، ما يشير إلى محاولة متكاملة لشل قدرات إيران النووية المتعددة.

كرد أولي على الضربات الأميركية، بدأت إيران في اتخاذ إجراءات انتقامية تصعيدية. تمثلت هذه الإجراءات في موافقة البرلمان الإيراني على مقترح إغلاق مضيق هرمز، الممر الملاحي الحيوي الذي تمر عبره حوالي 20 في المئة من صادرات النفط العالمية. ترافق ذلك مع تقارير عن تشويش في إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في المضيق، ما يشير إلى محاولات إيرانية للتحكم في البيئة البحرية. هذه التطورات تُشير إلى تصعيد خطير في ديناميكيات الصراع، مع احتمالية عالية لاستمرار التصعيد وتداعياته على الأمن الإقليمي والدولي.

على مستوى تداعيات الهجوم الأميركي على الأمن الإقليمي وبشكل خاص أمن دول الخليج العربي وفي محاولة لاستشراف الوضع المستقبلي من خلال المعطيات المتاحة فالأكيد أن الضربة العسكرية الأميركية المباشرة للمنشآت النووية الإيرانية، تشكل نقطة مفصلية في ديناميكيات الصراع في  للشرق الأوسط، ما يُنبئ بتحولات جذرية في التوازنات الإقليمية. فلطالما نظرت دول الخليج، إلى البرنامج النووي الإيراني باعتباره تهديدًا وجوديًا لأمنها واستقرارها. هذا الهجوم، الذي يُبرهن على عزم واشنطن على استخدام القوة العسكرية المباشرة ضد طهران، قد يدفع دول الخليج نحو تعميق شراكاتها الأمنية والإستراتيجية مع الولايات المتحدة. وعلى النقيض، قد يُعقّد هذا التصعيد مسارات التطبيع والتقارب التي سعت بعض دول الخليج إلى ترسيخها مؤخرًا مع إيران، إذ ستجد هذه الدول نفسها مضطرة لإعادة تقييم جدوى وأمان هذه المسارات في ظل تصعيد عسكري مباشر وتهديدات إيرانية متكررة للسيادة الخليجية.

من المرجح أن يُحرّك هذا التطور العسكري بعض القوى الإقليمية، التي كانت تُوازن بين المحاور الدولية، نحو الاصطفاف بوضوح أكبر مع المعسكر المناهض لإيران، أو على الأقل، تعزيز تحالفاتها القائمة لضمان أمنها الخاص في بيئة إقليمية أكثر اضطرابًا وتغيرًا، ما قد يُسفر عن تنسيق أمني واستخباراتي أكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، حتى وإن ظل ذلك غير معلن في الكثير من الأحيان، نظرًا إلى المصالح المشتركة في احتواء النفوذ الإيراني وتقويض قدرات طهران النووية. في المقابل، قد تسعى إيران إلى تدعيم “محور المقاومة” الذي تقوده، وممارسة ضغوط متزايدة على وكلائها في المنطقة لزيادة نشاطهم ضد المصالح الأميركية والإسرائيلية وحلفائهما، ما قد يؤدي إلى توسيع نطاق الصراع.

◄ كرد أولي على الضربات الأميركية، بدأت إيران في اتخاذ إجراءات انتقامية تصعيدية. تمثلت هذه الإجراءات في موافقة البرلمان الإيراني على مقترح إغلاق مضيق هرمز

من المتوقع أن يدفع هذا الهجوم إيران إلى إعادة تقييم شاملة لإستراتيجيتها النووية، وقد يزيد من الضغوط عليها لتقديم تنازلات كبرى في المفاوضات النووية، تصل إلى دفعها للتنازل عن برنامجها النووي بشكل كامل. فالضربات العسكرية المباشرة على منشآت حيوية تشكل رسالة قوية وواضحة من واشنطن بأن الخيار العسكري جاد ومتاح، وأن الولايات المتحدة لن تتسامح مع اقتراب إيران من حيازة السلاح النووي. هذا الضغط قد يدفع القيادة الإيرانية، التي تواجه تحديات اقتصادية داخلية وعزلة دولية متزايدة، إلى التفكير بجدية في تخفيف حدة التوتر وتجنب المزيد من المواجهة العسكرية التي قد تُهدد نظامها. وقد ترى إيران في المفاوضات فرصة لتخفيف العقوبات الاقتصادية واستعادة بعض الشرعية الدولية، مع الحفاظ على جزء من قدراتها النووية لأغراض سلمية معلنة.

على ضوء ما سبق تُمثل العملية العسكرية الأميركية تحديًا وجوديًا لطهران. وبالرغم من التهديدات المتكررة بالانتقام، فإن الخيارات المتاحة أمام إيران محدودة ومحفوفة بالمخاطر الجسيمة. فأيّ رد عسكري مباشر على الولايات المتحدة أو إسرائيل قد يؤدي إلى تصعيد كارثي، ويستدعي ضربات أشد قد تستهدف البنية التحتية الحيوية للنظام وقواعد الحرس الثوري نفسه. وتُدرك القيادة الإيرانية تمامًا أن قوتها العسكرية، رغم تطورها في بعض الجوانب، لا تزال بعيدة عن منافسة القوة التدميرية الأميركية والإسرائيلية المشتركة، خاصة في سياق حرب تقليدية واسعة النطاق. هذا الإدراك يدفع طهران إلى التفكير مليًا قبل اتخاذ أيّ خطوة قد تؤدي إلى تدمير ما تبقى من قدراتها، أو تدهور الأوضاع الاقتصادية المتأزمة بالفعل، ما قد يُهدد استقرار النظام من الداخل.

يتفاقم هذا الضعف بفعل الحسابات الداخلية المعقدة والصراع على السلطة داخل أروقة الحكم، خاصة مع تقدم المرشد الأعلى علي خامنئي في العمر وتزايد التكهنات حول خلافته. وقد يرى النظام، وفي مقدمته مجتبى خامنئي قائد الجناح الأكثر براغماتية والمعني بانتقال السلطة، أن تقديم تنازلات في البرنامج النووي هو الثمن الأقل لدفع الولايات المتحدة لرفع بعض العقوبات، وتوفير بيئة أكثر استقرارًا لضمان استمرارية النظام ومرور عملية الخلافة بسلاسة، فالخضوع للضغوطات الأميركية وتقديم تنازل كامل وعلنيّ عن البرنامج الصاروخي والباليستي والنووي هو المسار الأكثر أمانا للحفاظ على سيطرة نظام الولي الفقيه على السلطة في طهران.

 

اقرأ أيضا:

       • لن تنتهي الحرب إلا بولادة الدولة العاقلة في إيران

       • نهاية حتمية لنظام إيران ومحوره في المنطقة

       • عن "الشرق الأوسط الجديد" الذي يبشّر به نتنياهو… هل يمرّ عبر طهران

8