أحمد السماري لـ"العرب": نحن لا نحتاج إلى نقّاد أكثر

أحمد السماري، روائي وكاتب سعودي، شغلته الرواية عن علوم الزراعة والاقتصاد والتسويق، وانتقل من قائمة رجال الاقتصاد والأعمال إلى صفوف المُثقفين من عُشّاق الحرف والكلمة، في رحلة مثيرة أكدت أهميتها أعماله الأدبية التي قدمها للقراء. “العرب” كان لها هذا الحوار معه حول الكتابة الروائية وقضايا ثقافية أخرى.
لأحمد السماري حضور كبير في المشهد الأدبي السعودي والعربي، وقد أصدر عددا من الروايات التي حظيت باحتفاء النقاد والقراء. وهذا الشهر (يونيو 2025) حلّت روايته “ابنة ليليت” الصادرة عن منشورات رامينا في لندن، ضمن القائمة القصيرة للأعمال السردية المرشحة لمشروع “تحويل الرواية السعودية إلى سيناريو سينمائي 2025″، والتي ضمّت سبع روايات من بين عشرات الأعمال المتقدمة، وهي القائمة التي أعلنت عنها جمعية الأدب المهنية في السعودية.
تضم قائمة إصدارات الكاتب والروائي أحمد السماري روايتي “الصريم” و”القنطرة”، بجانب “ابنة ليليت”، وعشرات الكتابات التي تُنشر بالصحف والمواقع والمنصات الأدبية.
وتحتوي رواية “الصريم” على كنز من الحكايات الواقعية التي نُحتت من أعماق صحراء الجزيرة العربية، وهي رواية تشتم منها رائحة الأصالة، وتستحضر عبق الماضي. أما رواية “قنطرة” فتجمع أحداثها بين الفن والحب، ولا تغيب عنها مظاهر المعاناة، فيما تتناول تفاصيل من العاصمة السعودية الرياض، وما عرفته من أحياء شعبية في مشاهد بانورامية تحكي لنا جيل الستينات والسبعينات في القرن الماضي وعوالم حياته اليومية. وفي رواية “ابنة ليليت” يرصد لنا السماري الصراع بين الثقافات، والهجرة من أجل إثبات الذات، وما يرتبط بتلك الهجرة من مشقات وتحديات.
طوفان سردي عربي
حول تجربته في العمل بالزراعة والاستثمار، ثم انتقاله إلى عالم الأدب، يقول أحمد السماري لـ”العرب”: “كأنني كنت أزرع الأشجار وأنا أجهل أنني أزرع جُملا، وأبني البيوت غافلا عن أنني أشيدُ عوالم من خيال وكلمات.”
درس السماري الاقتصاد الزراعي، ثم غرس يده في تراب الزراعة، وأدار عجلة الاستثمار، وسافر مع الاستشارات من حقل إلى قاعة، ومن ورقة عمل إلى دفتر شروط. لكنّ شيئا ما كان دائما يتململ في داخله كطائر حبيس لا يكف عن الخفق بجناحيه كلما تسللت إلى مسامعه جملة جميلة، أو رأى موقفا يختزن مأساة أو دهشة أو سؤالا. وما كان يعلم أن في داخله كاتبا يتربّص بلحظة الانعتاق، إلى أن جاءت تلك اللحظة. لا يعرف تماما متى، لكنها حين أتت لم تكن انفصالا عن الماضي بل كانت امتدادا له.
يُشير أحمد السماري إلى أنه في كل مشهد زراعي يراه كانت هناك حكاية، وفي كل مستثمر يفاوضه كان هناك قناع وشخصية. في كل تقرير استشاري كانت هناك مقدمة وصراع ونهاية. حتى بدا له أن العالم، أيا كان مجاله، لا يخرج عن كونه سردية ما، تنتظر من يلتقط خيوطها ويعيد نسْجها بلغة الروح. ومن هنا، كان دخوله إلى عالم الأدب، لا هربا من الواقع، بل رغبة في أن يرى هذا الواقع بعيون أعمق. وصار يرى الكتابة شكلا آخر من أشكال الزراعة: لكنها تزرع في الإنسان لا في الأرض، وتحصد في الذاكرة لا في الحقول.
حول رؤيته لحاضر ومستقبل الرواية العربية، يقول إن “الرواية العربية اليوم تُشبه شجرة تنمو على ضفاف النهر بعد سنوات من الجفاف. جذورها قديمة، ضاربة في عمق السرد العربي، لكنها بدأت تمتد وتتفرع بحرية جديدة، تلتقط الضوء من كل الجهات، وتواجه الرياح بشجاعة متجددة.”
ويضيف أن الرواة الجدد يخوضون معارك مع المحظورات، مع الصمت الطويل، مع الإرث المصفّد بقيود السياسة والدين والمجتمع. هم أبناء التحولات الكبرى، يكتبون من بين الركام، ومن تحت الأسقف المتصدعة، ومن هوامش المدن ومفاصل الهويات. ولهذا جاءت الرواية الآن لتكون ديوانا جديدا للعرب، بعد أن تراجع الشعر عن مكانه المركزي.
ويعتبر أن المستقبل هو ساحة مفتوحة على احتمالات مدهشة، مؤكدا على أن الرواية العربية بدأت تخلع العباءات الثقيلة، وتلبس نصوصا منسوجة من لغة أكثر حرية، أكثر جسارة، أكثر حميمية.
وينوّه السماري إلى أن الرواية لم تعد تكتفي بأن تحكي الحكاية، بل صارت تمتحن اللغة، وتكسر البنية، وتطرح الأسئلة بدل أن تبحث عن الإجابات. لكنها، مع ذلك، تقف على مفترق طرق: بين السعي إلى العالمية، والحنين إلى المحلية، بين غواية السوق، وصدق التجربة، بين الغزارة التي تهدد بالسطحية، والعمق الذي يخشى أن يُنسى في الزوايا.
ويرى أن الرواية العربية اليوم تُولد من رحم التناقضات، وتكبر وهي تتعلم أن تحيا وسط العواصف، وذاك ما يمنحها أسباب البقاء والتميّز.
وحول رؤيته لمدى قدرة الحركة النقدية العربية على مواكبة حركة النشر الواسعة في مجال الرواية، يقول أحمد السماري إن “النقد اليوم يمشي على قدم واحدة، فيما الرواية تركض بأربعة أجنحة. وإننا نعيش زمن طوفان سردي، الروايات تتكاثر كأنها محاولة جماعية لقول كل ما سُكت عنه طويلا، أو كأنها ردّ على ما فات من عقود كان فيها الكاتب العربي خائفا أو مكموما أو معزولا.”
ويشبّه الناقد بأنه ذاك الذي يُفترض أن يضيء الطريق، لكنه ما زال في الكثير من الأحيان يمشي بخطى من يُمسك فانوسا قديما في مدينة تتوهّج بألف شاشة، مشيرا إلى أن النقد المؤسسي يتراجع، وأن النقد الصحفي يتسارع بلا تمعّن، أما النقد الأكاديمي-بحسب قوله- فغالبا ما يبقى أسيرا لمدارسه وتقاليده الصارمة، لا يجرؤ على الإمساك بنصّ وهو لا يرتدي قفازات المنهج.
ويوضح الكاتب السعودي أنه لا يمكن القول إن الحركة النقدية غائبة تماما، لافتا إلى أن هناك أفرادا لا مؤسسات، أصواتا لا تيارات، مقالات متناثرة أكثر من أن تُشكّل مشهدا متماسكا، وأن الناقد الحقيقي اليوم ليس بالضرورة أستاذا جامعيا أو كاتبا في ملحق ثقافي، بل قد يكون قارئا متذوّقا، يكتب من حافة التجربة، أو حتى من صميم الدهشة.
ويرى أن حركة النشر الواسعة كشفت العجز النقدي، لا لتدين النقاد، بل لتدلنا على حاجة الثقافة العربية إلى تجديد أدواتها في القراءة والتقويم. نحن لا نحتاج إلى نقّاد أكثر، بل إلى نقد أعمق، أكثر صدقا، أقل مجاملة، وأشدّ حبّا للنص مما هو للكاتب.
ويشدد السماري على أن الناقد في النهاية لا يجب أن يكون ظل الكاتب، بل مرآته. والمرآة التي لا تُظهر التجاعيد مرآة خادعة.
الحداثة والتراث
حول موقفه من لغة السرد، وهل يُفضل العامية أم الفصحى، يقول إن الفصحى هي عمود الرواية، وهي اللغة التي يكتب بها السرد، ويُشكّل بها النسيج الأدبي للنص. فيها يجد الاتساع، والقدرة على التعبير، وعمق الإيحاء. وهي لغة لا تُحددها جغرافيا -وفقا لقوله- ولا تُقيّدها لهجة، ولهذا تصلح لأن تكون الوعاء الذي يحمل القارئ أيا كان انتماؤه.
ويعتبر أن العامية ليست نقيضا للفصحى، بل ظلّها اليومي، ومرآتها العفوية. وهو يستخدمها في بعض الحوارات حين تقتضيها الضرورة الفنية والواقعية، لا حبّا في التسهيل، بل رغبة في تحقيق خصوصية زمانية ومكانية، وفي منح الشخصيات صوتا يُشبهها، لا يُفرض عليها.
ويتابع قائلا “فشخصية نشأت في حارة شعبية في السبعينات، لا يمكن أن تتحدث كما يتحدث فيلسوف أو شاعر من القرن الثالث الهجري.” ويشدّد على أن الصدق في الرواية لا يأتي فقط من عمق المعنى، بل من أمانة الصوت أيضا.
ويرى السماري أن التوازن بين الفصحى والعامية، حين يُستخدم بذكاء، يمنح الرواية حياة إضافية، ويقرّب القارئ من نبض الشخصيات، دون أن يضعف القيمة الأدبية أو يُشوّش على جمال اللغة.
أما عن موقفه من التيارات الحداثية في الرواية فيعتبر أن التجديد هو سر الاستمرار الإبداعي، وأن الرواية، كفن حي، لا يمكن أن تبقى أسيرة شكل واحد أو قالب جامد. التيارات الحداثية، بكل ما حملته من كسر للتقليد وتحرير للأشكال، فتحت أمام السرد العربي آفاقا جديدة للتجريب والتفكير والاقتراب من مناطق كانت الرواية الكلاسيكية تخشى أن تلامسها.
الكاتب السعودي يرى أن حركة النشر الواسعة كشفت العجز النقدي، لا لتدين النقاد، بل لتدلنا على حاجة الثقافة العربية إلى تجديد أدواتها في القراءة والتقويم
ويرى أن ذلك لا يعني أن يكون كل تجديد مقبولا بالضرورة، وليس كل تجربة حداثية قادرة على الحياة. وأن بعض النصوص تهدم البناء دون أن تقيم بديلا، وتكسر الشكل دون أن تمنحنا روحا. وهنا يُصبح التجريب مجرد غرابة فارغة لا تُنتج أثرا.
ويوضح بأن الرواية الكلاسيكية ما زالت تملك مكانا آمنا ومتجددا في وجدان القارئ. وهي ليست عائقا أمام الحداثة، بل نبع أصيل يتطور بطريقته، وفق ظروفه وزمنه واحتياجات القارئ.
ويؤكد أنه مع التجديد الذي ينبع من حاجة داخلية للنص، لا من نزوة شكلية، وأنه مع الحداثة حين تكون لغة لإعادة اكتشاف الإنسان، لا مجرد أداة لدهشة عابرة.
وحول مدى الحاجة إلى منهج ينبع من تراثنا العربي في نقد الرواية، يقول السماري إنه لم يدرس الأدب أكاديميا، ولهذا يُفضّل ألا يتجاوز حدود تجربته كروائي، وأنه يُفضل أن يترك مثل هذا السؤال لأهل الاختصاص من النقاد والأكاديميين، ممن تمرّسوا بقراءة التراث وتحليل النصوص وفق أطر معرفية دقيقة. وأنه من موقع الممارسة، يمكنه القول إن الرواية العربية، التي تنبع من وجدان عربي وتتحرك في بيئة ذات خصوصية ثقافية وتاريخية، تستحق أن تُقرأ أحيانا بعين أكثر قربا من روحها، وبمنهج يراعي نسيجها اللغوي، وإيقاعها الثقافي، ورمزيتها المستمدة من تراث غني بالتخييل والسرد. وأن الكرة تبقى في ملعب النقد، وهو المؤتمن على تطوير الأدوات، وابتكار مناهج لا تقطع الصلة بالعالم، ولا تهمل جذورنا العميقة.
تسأل “العرب” الكاتب السعودي عن رؤيته لمدى وجود علاقة بين السرديات العربية الكبرى والفن الروائي الحديث وموقفه منها. ليجيبنا “نعم، ثمة علاقة لا يمكن إنكارها بين السرديات العربية الكبرى (من المعلقات، إلى السير الشعبية، إلى ألف ليلة وليلة)، وبين الفن الروائي الحديث. تلك النصوص الأولى كانت تحمل في جوهرها بذور الرواية: الحكاية، التشويق، التعدد الصوتي، والحكمة التي تتخفى خلف السرد.”
ويضيف “مع تطور الزمن، وبفعل حركة الترجمة وتبادل الثقافات، لم تعد الرواية ابنة بيئة واحدة. التأثير أصبح متبادلا،” ويعتبر أن هذا أمر طبيعي بل وضروري، إذ لا إبداع معزول عن محيطه الإنساني. وأن الرواية العربية اليوم تستفيد من تقنيات السرد العالمي، وتشارك في التيارات الأدبية الكبرى، لكنها ما زالت تمتلك نبرتها الخاصة، وذاكرتها المختلفة، ومفرداتها التي لا تُشبه غيرها.
ويبيّن أن الاندماج في العالم لا يعني الذوبان، وأن التمايز لا يعني الانغلاق. وأن المهم هو أن نكتب بروحنا، بلغتنا، ومن داخل أسئلتنا، حتى وإن استخدمنا أدوات تعلّمناها من الآخر. فـ”الرواية، كغيرها من الفنون، هي حوار متصل بين الثقافات، لكنها لا تصير ذات قيمة إلا حين تنبع من عمق الذات وتُصغي لنبض المكان.”