عبد اللطيف الصمودي.. حين يصبح الحرف بيتا واللون مأوى للذاكرة

فنان يصنع الجمال من الحنين، وهويته من المنفى ولوحاته من رموز لا تموت.
الأربعاء 2025/06/25
لوحات تنبض بتاريخ جداريات قديمة

فنانون كثيرون صنعوا هويّاتهم في المنافي بعيدا عن أرضهم الأولى، وقريبا منها عبر الخيال والذكرى، هكذا كان الفنان السوري عبداللطيف الصمودي، الذي احتفي بتجربته بما يليق بها من احتفاء في أماكن عديدة إلا في وطنه، لكنه أبدا لم يتخل عن سوريته وانتمائه، وبقي إلى حين رحيله يقدم أعمالا من روح الأمكنة وحكاياتها ورموزها.

بالأمس مرت عشرون سنة على رحيل الفنان السوري، ابن حماة، عبداللطيف الصمودي، وأجدني أقف أمام هذا الاسم لا بوصفه صفحة طويت من تاريخ الفن التشكيلي، بل كشاهد حي على رحلة فكر، ومقام إنساني، وروح لا تزال ترفرف فوق المساحات الصامتة للوحة العربية.

لم نلتق في كلية الفنون الجميلة بدمشق، رغم أنها جمعتنا زمانا مختلفا. وعندما حملتني الخطى إلى دبي بحثا عن فسحة للرسم والعمل، كان قد سبقني إليها بأربعة أعوام. لكن اللقاء المنتظر تم في الشارقة، التي كانت في أواخر السبعينيات محرابا ثقافيا نادرا. وهناك وجدت عبداللطيف لا كفنان منعزل في مرسمه، بل كمنظر جمالي، وصانع مشهد، وصوت جماعي للفن العربي الآخذ في التشكل وسط تحولات العصر.

مهندس الجماليات

عبداللطيف الصمودي كان مهندسا لجماليات جديدة لا تنتمي للتجريد الغربي المحض بل تستقى من البيئة العربية
عبداللطيف الصمودي كان مهندسا لجماليات جديدة لا تنتمي للتجريد الغربي المحض بل تستقى من البيئة العربية

كان محترف الصمودي نقطة جذب، لا للفنانين فحسب، بل لكل من يرى في الفن بوابة للمعنى. تحدثنا طويلا عن البصريات والسياسة، عن الشعر والموسيقى، بل وحتى عن فن الطهو الدمشقي والحموي الذي كان يتقنه بشغف وعذوبة.

لم يكن عبد اللطيف رساما فحسب، بل كان إنسانا مكتمل الحواس، يرى العالم لوحة، ويتذوق الحياة كما لو أنها قصيدة كتبت على نار هادئة.

كان عبد اللطيف الصمودي مهندسا لجماليات جديدة، لا تنتمي للتجريد الغربي المحض، بل تستقى من البيئة العربية. لوحاته ليست صرخة ضائعة في العبث، بل بحثا عميقا عن المعنى عبر رمز صحراوي، وخطوط منحنية، وفراغات مقصودة، وكأنها شظايا حلم نحته الزمن.

في قلب هذا التكوين، يقف الحرف العربي لا بوصفه كتابة، بل كجسد بصري وروحي. الحروف عند الصمودي لا تقرأ، بل تشاهد وتلامس، تتداخل وتتجسد في الفراغ، متقاطعة مع الضوء والظل، حتى تتلاشى المسافة بين اللغة والصورة.

أما لونه، فكان امتدادا لروحه. اعتمد على تدرجات ترابية دافئة، من البني الصدئ إلى الأزرق السماوي، وكأن لوحاته تنبض بذاكرة جداريات قديمة، سكنها الحنين وتقشف الجمال. وكان سطح لوحته يشبه الجلد المعتق، بطبقاته المتراكمة والمشروخة، التي تفتح للمتأمل نافذة على الزمن.

ورغم نزعته التجريدية الواضحة، لم تكن أعماله باردة أو نفعية؛ كانت مشحونة بمحتوى روحي عميق، تستحضر التصوف الإسلامي دون أن تقع في الوعظ أو الخطاب المباشر. كانت تدعوك للتأمل، لا للحكم، وللغوص في طبقات الذات، لا لاستهلاك المعنى الجاهز.

حين غادرت الإمارات إلى بريطانيا في مطلع الثمانينيات، ظلت أخباره تصلني عبر المعارض والمقالات. كان يحقق حضورا متناميا دون أن يتخلى عن خجله النبيل. لكن لم تتح لي الفرصة للعودة واللقاء به ثانية. وعندما بلغني نبأ وفاته المفاجئة عام 2005 عن عمر لم يتجاوز السابعة والخمسين، شعرت كما لو أن مرسما انطفأ داخلي إلى الأبد.

لكن ما يواسيني الآن هو أن إرثه لم يمت، وأن الحديث عنه اليوم ليس رثاء بل إحياء، ليس ذكرى بل عودة.

هوية في المنفى

الفنان مزج في لوحاته الحرف العربي بلون الرمل، والهوية بالرمز، والصوفية بالحسية، حتى باتت أعماله وثائق حية

اليوم، وبعد عقدين من الغياب، يعيدني اسمه إلى كل تلك اللحظات الغنية التي تقاسمناها، وتلك التي لم تمنح لنا. وتعصف بي مرارة كبرى: كم ظلم هذا الفنان، وكم ظلمت مدينة حماة التي أنجبته. لم أسأله يوما عن سبب اغترابه، لكنه كان واضحا كالشمس: كانت حماة مدينة مغضوبا عليها من نظام لا يرى في الجمال سوى تهديد، ولا في الحروف سوى خطر.

لقد ظلمته المؤسسات، كما ظلمت مدينته حماة. لم يتح له أن يرى سوريا الجديدة، ولا أن يعود إلى عشقه الأول. لكنه بقي حيا في ذاكرة كل من عرفه، ولوحة كل فنان تأمل ما تركه.

لكن عبد اللطيف لم يحتج إلى قاعة رسم وطنية ليترك أثره. صنع هويته في المنفى، وبنى جدارية حياته من الصمت والضوء والتراب. مزج في لوحاته الحرف العربي بلون الرمل، والهوية بالرمز، والصوفية بالحسية، حتى باتت أعماله وثائق حية لا لجماليات الفن فقط، بل لذاكرة شعوب تبحث عن صوت.

عرضت أعماله في المتاحف العالمية، من باريس إلى أبوظبي، ونال جوائز مرموقة، منها الجائزة الكبرى في بينالي بنغلاديش. لكنه ظل على هامش المؤسسات السورية، غائبا عن المعرض الوطني، وعن مهرجان يليق بإرثه. وربما آن الأوان لتكتب هذه الغصة كرسالة مفتوحة: يا معالي وزير الثقافة السوري، عبداللطيف الصمودي لا يكرم فقط لأنه فنان عبقري، بل لأنه نافذتنا على سوريا التي نحلم بها؛ سوريا المتصالحة مع ذاتها، الرحبة بما يكفي لتحتضن ابن حماة وألوانه. خصصوا مهرجانا سنويا للفن التشكيلي يحمل اسمه، أعيدوا اكتشافه، فأنتم تكرمون أنفسكم بتكريمه.

في ذكرى غيابه، أستعيده كما عرفته: رجلا يصنع الجمال من الحنين، واللوحات من رموز لا تموت. ورغم كل شيء، يبقى السؤال الذي لا يغيب: لو عاش عبد اللطيف الصمودي عشرين عاما أخرى، كيف كانت ستبدو لوحاته وهو يرى سوريا تحاول أن تولد من جديد؟

13