أسئلة متجددة حول استمرار غياب السينما الاستعراضية المصرية

أفلام غنائية بإيقاع استهلاكي تثير حنينا إلى كلاسيكيات السينما.
الثلاثاء 2025/06/24
أفلام جذابة لا تبحث عن القيمة الفنية

ما الذي دفع الأفلام الغنائية المصرية إلى الغياب بعد أن قدمت لسنوات طويلة أشهر نجوم الفن السابع وأفلاما خالدة لا تنسى؟ سؤال ربما يخطر على بال الكثيرين، حيث أصبحت السينما الغنائية مجرد رهان على نجومية مطربين واستعراضا لأغان، دون معالجة فنية جادة.

القاهرة- في الوقت الذي لا ينضب فيه تيار الأعمال السينمائية الغنائية والاستعراضية الكبير في السينما العالمية، شهدت الأفلام الغنائية المصرية تراجعا تدريجيا في السنوات الماضية، على مستوى معالجاتها الفنية حيث تقتصر في النهاية على إلقاء العبء كاملا على كاهل بطل العمل، وهو دائما ما يكون نجم غناء يفتقر إلى موهبة الأداء التمثيلي كعامل جذب لجماهير شباك التذاكر، من الشباب والمراهقين وصغار السن.

وتواصل السينما الاستعراضية الضخمة بمفهومها الشامل الاختفاء تقريبا عن ساحة الفن السابع المصري منذ عقود، ولم يعد النقاد يشاهدون أفلامًا تحمل بنية درامية متماسكة، وتتخللها أغانٍ واستعراضات تخدم السياق الفني بشكل جيد.

وغابت السينما الاستعراضية العملاقة بنجومها وصناعها من مخرجين وملحنين وكتاب وشعراء تماما، بعد أن كانت إحدى أهم أسلحة السينما المصرية التي مكنتها من تقلّد مكانتها في المنطقة منذ نشأتها، حيث مثلت ركيزة فنية متينة من ركائز الشاشة الفضية في مصر، وضمنت لها مكانا جيدا لدى الجمهور العربي.

سينما "تيك أواي"

تقود الإيرادات الكبيرة التي حققتها أفلام عدد من نجوم الغناء الحاليين، وآخرها إيرادات فيلم المطرب تامر حسني الأخير “ريستارت” الذي عرض في دور العرض قبل أيام، وبلغت نحو 70 مليون جنيه مصري بما يعادل نحو 1.4 مليون دولار، إلى فهم آليات تفكير صناع الأفلام الغنائية، والمتمثلة في الاستعانة بنجم غنائي له شعبية بين جموع الشباب، مع معالجة درامية بسيطة تلامس جزءا من اهتمامهم.

وهي قضية صناعة ما يعرف بـ”التريند” عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجل حصد الأموال والشهرة، وجماعات تحاول استغلال صناع المؤثرين، وتقودهم إلى مناطق خطرة، مع الحرص على عرض الفيلم خلال موسم أكثر إقبالا من هذه الشرائح العمرية، وهو موسم أفلام العيد وإجازة الصيف، إذ عرض فيلم تامر حسني بعد أيام من عيد الأضحى، وإنهاء شريحة كبيرة من الطلبة امتحاناتهم وبدء إجازة الصيف.

وهذه توليفة تم تغليفها بنمط استهلاكي سريع نجح بالفعل في القفز بالفيلم خلال موسم عيد الأضحى، وتربع على قمة شباك التذاكر متفوفقا على فيلم “المشروع إكس” بطولة
كريم عبدالعزيز، والذي يعد أضخم إنتاجات السينما المصرية في السنوات الأخيرة.

عرض متواصل

أدى انحسار المد الذي حققه فيلم “المشروع إكس” في موسم عيد الأضحى إلى تراجعه للمركز الثاني، ثم عاد مجددا إلى الصدارة في إيرادات تجاوزت 110 مليون جنيه، بما يعادل نحو 2.2 مليون دولار.

وتفضي الأفلام الاستهلاكية الغنائية المصنعة خصيصا لشرائح من صغار السن إلى حسرة حقيقية، حيث يقفز مباشرة إلى الذهن الفيلم المهم “خلي بالك من زوزو” بطولة النجمة الراحلة سعاد حسني، وأنتج عام 1972، وخَلق الفيلم حالة سينمائية خاصّة، حققت نجاحا غير مسبوق في شباك التذاكر لمدة تزيد عن عام، ولا يزال حتى هذه اللحظة محتفظا بجمالياته الفنية وبريقه بعد نحو 53 عاما على عرضه، لم لا؟ وقد احتشدت للفيلم كتيبة نجوم وملحنين وصناع سينما من العيار الثقيل، قادتهم أوراق وأشعار الشاعر المصري صلاح جاهين، ورؤية مخرج كبير من أبرع مخرجي السينما المصرية هو حسن الإمام.

تعدى هذا الفيلم مرحلة كونه مجرد فيلم استعراضي غنائي إلى تحويله لفيلم يمس بعمق قضايا جيل شباب الجامعة المتطلع إلى كسر الكثير من القيود المجتمعية في مطلع سبعينات القرن الماضي، خلال مرحلة تفاوتت بين هزيمة يونيو 1967 والانتصار على إسرائيل في أكتوبر 1973.

وكشفت الحالة الرائعة التي خلقتها استعراضات وأغنيات الفيلم، وأبرزها أغنية “يا واد يا تقيل” للشاعر صلاح جاهين والموسيقار كمال الطويل، وأدتها سعاد حسني، والتي عرفت بأنها “سندريلا” السينما المصرية بكل موهبتها وسحرها وخفتها على الشاشة.

وفيلم “خلي بالك من زوزو” هو عمل عابر للزمن، صنع للشباب بمعايير عالية الجودة، جعلته أحد أهم الأفلام التي جذبت عائلات مصرية وعربية من أعمار مختلفة لمشاهدته كلما عرض على إحدى الفضائيات حاليا، وعلى الرغم من مرور زمن طويل على إنتاج هذا الفيلم، إلا أنه لا يزال يحظى بجاذبية عالية.

ليس بعيدا عن الحالة التي صنعها فيلم “خلي بالك من زوزو” تلك التي حفرها في وجدان شريحة كبيرة من المشاهدين العمل السينمائي الاستعراضي اللافت “مولد يا دنيا” للمخرج المصري حسين كمال، وهو عمل يعد نموذجا حقيقيا لقوة البناء الدرامي للفيلم الغنائي الذي مزج بين ألحان بليغ حمدي وكمال الطويل.

قدم الفيلم طرحا مجتمعيا غير مسبوق، يتمثل في كيفية تفجير الطاقات الإبداعية الفنية المختزلة لدى مجموعة من الشباب المشردين، وعلى رأسهم فتاتان جسدتهما المطربة عفاف راضي والفنانة لبلبة، اضطرتهما ظروفهما الاقتصادية القاسية للانحراف، لقاء مدرب للاستعراضات وجسده الفنان محمود ياسين الذي آمن بإبداعهما، ويقوم بمحاولة لإنقاذهما ويشكل منهما فرقة متألقة للفنون الشعبية بعد سلسلة من الأحداث الدرامية.

تاريخ من التألق

◄ فيلم "ياسمين" أحد الأفلام الغنائية الخالدة
◄ فيلم "ياسمين" أحد الأفلام الغنائية الخالدة

تشير العودة إلى جذور التألق الإبداعي للسينما المصرية الاستعراضية إلى أول أفلام السينما المصرية الناطقة وهو “أنشودة الفؤاد” عام 1932 للمخرج ماريو فولبي ولعبت بطولته المطربة نادرة وفنان المسرح جورج أبيض وكتبه الشاعر اللبناني خليل مطران. والفيلم إشارة إلى بدء تاريخ طويل وممتد من السينما الغنائية الاستعراضية التي يصعب حصر إبداعاتها المختلفة.

وبرزت خلال هذه الفترة الزمنية أعمال غاية في الأهمية، قادت السينما المصرية إلى موقعها كعاصمة للسينما في الشرق الأوسط، مقابل هوليوود عاصمة السينما العالمية.

وقدمت القاهرة المئات من الأعمال السينمائية الاستعراضية التي تألق فيها نجوم ونجمات للغناء والاستعراض، في مقدمتهم المطربة الكبيرة ليلى مراد التي قدمت رفقة زوجها الفنان والمخرج والمنتج أنور وجدي خلال أربعينات القرن الماضي عددا من الأفلام الغنائية مثل فليم “عنبر”، وسلسلة أفلام حملت اسم ليلى: “بنت الأغنياء” و”بنت الفقراء” و”بنت الأكابر” و”بنت الريف”، وكلها أعمال باذخة الإنتاج، وتسكن حتى اللحظة داخل وجدان الملايين من عشاق الفن السابع في العالم العربي.

وأضافت السينما المصرية أرقاما مهمة في عالم الاستعراض السينمائي، مثل نعيمة عاكف في خمسينات القرن الماضي، وسعاد حسني ونيللي في أواخر الستينات وعقد السبعينات، مرورا بإضافة شيريهان إلى القائمة خلال حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

وفي إحدى حواراته التلفزيونية التي أجراها نهاية تسعينات القرن الماضي، دعا المخرج الراحل محمد خان إلى إعادة الاعتبار لفن الاستعراض في السينما المصرية، مؤكدًا أن الفيلم الغنائي كان وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بطريقة بصرية وصوتية مبهرة، منبها إلى خطورة استمرار اختفاء السينما الاستعراضية قائلا “سنفقد في هذه الحالة الإيمان بجمال الصورة السينمائية.”

14