حرامي "الحلة"

 لم يتوقف تأثر البشر بالطنجرة عند الأمثال الشعبية فقط، وامتد إلى العلاقات الغرامية واستخدام مفرداتها في الغزل.
الخميس 2025/06/19
ليس مجرد وعاء للطهي

هل فكرت يوما في أهمية الحلة أو الطنجرة في الحياة، وهل تساءلت ولو لمرة واحدة بينك وبين نفسك عن السبب الذي منحها دورا محوريا ليس فقط في تجهيز الطعام وطبخه، لكن في الذاكرة الجمعية للبشر، لدرجة إطلاق اسم “حرامي الحلة” على نوع منتشر من النمل المنزلي الفرعوني.

يمكنك بقليل من البحث أن تجد العشرات من الأمثال الحياتية في البلاد العربية من المحيط إلى الخليج التي ارتبطت بالطنجرة، مثل المثل المغربي الشهير الذي يقول “إذا عراتك الطنجرة تعَريها” والمقصود إذا أحرجك أحد فرد له الإحراج، والمثل الخليجي الذي يقول “إذا طبخت الحلة، بلّت الجيران”، والمعنى أن الأخبار السيئة أو الفضائح تنتشر بسرعة مثل رائحة الطعام.

لم يتوقف تأثر البشر بالطنجرة عند الأمثال الشعبية فقط، وامتد إلى العلاقات الغرامية واستخدام مفرداتها في الغزل، حيث يقول الحبيب لحبيبته في المناطق الشعبية “إنت الحلة وأنا غطاها” عندما يريد التأكيد على ارتباطهما العضوي ببعضهما البعض، واحتياج كليهما إلى الآخر، فالحلة لا قيمة لها دون غطاء، والذي ليس له لزوم في الحياة إذا لم تكن هناك طنجرة.

هذا الدور المتعاظم في حياتنا للطناجر دفعني للبحث عن سر الأهمية الفائقة لذلك النوع من أواني الطعام في حياتنا، وخلال رحلة البحث اكتشفت أن هناك من سبقني، منهم الدكتورة نوال السعداوي التي حاولت تفسير أهمية الحلة في الثقافة العربية في دراسة مهمة صدرت عام 2018 وحملت عنوان “المطبخ كفضاء اجتماعي”.

وفي دراستها، أرجعت الكاتبة المصرية نوال السعداوي أهمية الطنجرة إلى رمزيتها الاجتماعية في الذهنية العربية القديمة، حيث كانت ملكا مشاعا للنساء في المجتمعات الريفية والبدوية، وفي أوقات الطبخ هي المتنفس للعشرات من النساء في تلك المجتمعات للتجمع والاختلاط بعيدا عن هيمنة الرجال.

في المقابل، كانت الحلة أو الطنجرة رفيقا أساسيا للرجال في المجتمعات البدوية، خصوصا تلك التي كان الترحال والتنقل من أهم سماتها، والعيش في الصحراء لأيام طويلة، لا يجد فيها الرجال وسيلة للحصول على الشعور بالأمان أكثر من الطنجرة التي يحملونها معهم، وكانت تمثل لهم وسيلة للبقاء على قيد الحياة.

ومن الطرائف التي كشفتها رحلة البحث أن تسمية نوع من النمل المنزلي باسم حرامي الحلة، ويعرف علميا بكونه “النمل الفرعوني”، لم تقتصر على المصريين فقط كما كنت أظن، بل امتدت إلى دول عربية عديدة، حيث يطلق العراقيون على نفس نوع النمل اسم “چنچل الحلة”، وفي دول الخليج يطلقون عليه “هراب المواعين”.

المفارقة الكبرى، هي أن الارتباط بالطناجر لم يقتصر على العرب، ويبدو أنه ظاهرة عالمية، حيث ينتشر في الصين مثل يقول “قدر واحد من العصيدة”، ويستخدم للإشارة إلى الفوضى واختلاط الأمور، وفي فرنسا شاع تعبير “طنجرة الضغط” بين سكان المدن الكبرى للإشارة إلى الضغوط النفسية والعصبية التي يعانون منها.

وفي المرة القادمة التي ترى فيها طنجرة على النار، تذكر أنك لا تنظر إلى مجرد وعاء للطهي، بل إلى أداة ساهمت في تشكيل الذاكرة الجمعية للبشر، وعليك أيضا أن تحافظ على محتواها، لأن حرامي الحلة لا يزال طليقًا.

18