"أركو" فيلم بأسئلة يصنع من الطفولة خارطة للمستقبل

مهرجان آنسي الدولي للرسوم المتحركة يتوج فيلم "أركو" بجائزة "كريستال" الكبرى.
الثلاثاء 2025/06/17
فيلم صغير بأسئلة كبيرة

في ظل حضور سينمائي عالمي تجاوز 118 دولة ومشاركة أكثر من 18 ألف متخصص ومهتم، توج مهرجان آنسي الدولي للرسوم المتحركة فيلم “أركو” بجائزة “كريستال” الكبرى، متفوقًا على نخبة من الإنتاجات العالمية. يأتي هذا الفوز تتويجا لفيلم فرنسي اختار أن يهمس بدلا من أن يصرخ، وأن يعانق طفولةً مشروخة في زمن مشروخ.

أخرج الفيلم المخرج الفرنسي أوغو بيانفونو، ويمتد لـ82 دقيقة من الرسوم اليدوية الهادئة، التي تبتعد عن الضوضاء الرقمية المعتادة، لتُلامس المشاهد كأنها مأخوذة من دفتر طفولة نجا من الزمن.

تدور القصة حول الصبي “أركو”، القادم من مستقبل بعيد، مرتديا عباءة بألوان قوس قزح. في مغامرته الأولى لاختبار الطيران، يسقط أركو في “مستقبلنا القريب”، عالم لم يعد يشبه شيئا مما يحلم به الصغار. يلتقي بـ”إيريس”، فتاة في عمره تحاول مساعدته في العودة إلى زمانه، لكنه في المقابل يوقظ فيها فضولا نحو العالم الذي جاء منه.

الفيلم يبتعد عمدًا عن الخط السردي التقليدي، ليصوغ تجربة حسية – زمانية، تُطرح من خلالها تساؤلات وجودية عن الانتماء، الذاكرة، والاختلاف، دون أن يفقد حسه الطفولي أو دفء لغته البصرية.

ما يميز أركو ليس فقط طبيعته السردية، بل لغته البصرية التي تميل إلى الاقتصاد والنعومة. الرسوم تبدو كما لو أنها مرسومة بالقلم الخشبي، واللوحات تحمل ألوانًا ترابية لا تسعى إلى الإبهار بقدر ما تسعى إلى الإيحاء. لا وجود لمعارك بصرية ضخمة، بل هناك ذكريات بصرية حالمة تنبض بالإيقاع المتأني.

أوغو بيانفونو يقدم  فيلمه كما لو كان يدعو المشاهد إلى التنفس ببطء والتأمل وتذكر طفولته دون فلاتر رقمية
أوغو بيانفونو يقدم فيلمه كما لو كان يدعو المشاهد إلى التنفس ببطء والتأمل وتذكر طفولته دون فلاتر رقمية

في عالم يشهد هيمنة للسرعة والمبالغة، يقدّم أوغو بيانفونو فيلمه كما لو كان يدعو المشاهد إلى التنفس ببطء، إلى التأمل، إلى تذكّر طفولته دون فلاتر رقمية.

يستثمر الفيلم المفارقة الزمنية بين “المستقبل البعيد” و”الحاضر المأزوم” ليعيد النظر في أسس عالمنا: كيف فقدنا البراءة؟ وأي مستقبل يُمكن أن يخرج من حاضر مفكك؟ الصمت في الفيلم أبلغ من الحوار، والمسافات الطويلة بين الكلمات مليئة بالإيحاء.

أراد المخرج من خلال أركو أن يُنبّهنا إلى ما نفقده ونحن نكبر، وأن الطفل ربما يكون هو الناجي الوحيد من حماقات الكبار.

فوز أركو في مهرجان آنسي لم يكن مجرّد تتويج لفيلم “جميل”، بل كان اعترافا بعمل يُعيد لسينما الرسوم المتحركة دورها كمساحة للبحث الإنساني والفني. فوسط هيمنة الإنتاجات الأميركية واليابانية عالية التقنية، جاء هذا الفيلم ليؤكد أن للسينما المستقلة والمتحررة من الأطر الصناعية مكانتها، إذا ما كانت صادقة وعميقة ومخلصة للحكاية.

إن أركو، ببساطته وتركيزه على المشاعر والتفاصيل الصغيرة، يُذكّرنا بأن القصة الجيدة لا تحتاج دائمًا إلى مؤثرات، بل إلى نية سردية حقيقية ورؤية فنية تعرف أن الطفل ليس مجرد متفرج، بل كائن قادر على أن يرى ما لا يراه الكبار.

في السياق الثقافي الفرنسي، يُمثّل أركو امتدادًا لتيار سينمائي بصري يتبنّى البُعد الإنساني في السرد، ويمنح الرسوم المتحركة دورًا يتجاوز الترفيه البصري نحو الاستبطان الفني والنفسي. فالفيلم ليس مجرد إنجاز تقني أو سردي، بل هو ابن شرعي لمدرسة فرنسية تؤمن بأن الفن يجب أن يصغي لا أن يستعرض، ويُراهن على الخيال بوصفه أداة لإعادة اكتشاف الذات لا للهروب منها. بهذا المعنى، يضع أركو نفسه في تقاطع حساس بين سينما الأطفال والفكر الفلسفي المصوّر، ويؤكد مجددا أن الرسوم المتحركة في فرنسا ليست فنا صغيرا، بل هي خطاب ثقافي ناضج، قادر على طرح الأسئلة الكبرى بلغة ناعمة لا تُنسى.

13