"6 أيام" دراما رومانسية مبنية على سينما السير والمحادثة

في السير والمحادثة متعة يستلذ بها الكثير من البشر، كذلك الأمر إن انتقلت هذه المتعة نحو الشاشة الصغيرة، وشاهد محبو السينما أفلاما تجمع الأبطال ليتحدثوا ويبوحوا بعواطفهم ومشاكلهم والتحديات التي يواجهونها، وهم يسيرون في طرقات تتعدى كونها مجرد أماكن لتكون بمثابة طرق يسيرها المرء داخل عقله وروحه. وهذا ما يذكرنا به فيلم "6 أيام" أحد الأفلام العربية النادرة التي تبنت هذا الأسلوب الإخراجي في إيصال الفكرة العامة من العمل.
“احنا المفروض نحوش عن بعض” (نحن من المفروض أن ندافع عن بعضنا البعض) هكذا يدخل بنا المخرج كريم شعبان في عوالم حكاية سينمائية صاغها المؤلف وائل حمدي، ليصطحبنا بموسيقى الفنان المصري محمد منير وبمشهد طالبي مدرسة يشاهدان فيلم “المصير” ليوسف شاهين في إحدى دور السينما المصرية، إلى حكاية بدأت منذ سنوات.
الزمن هو 19 ديسمبر 2006، الذي سرعان ما سيتبين لنا لاحقا أن 19 ديسمبر سيكون حدثا فارقا، لكنه أيضا يوم متكرر، عيد سنوي يجمع البطلين، ويأخذ مشاهدي الفيلم في نموذج عربي لـ”أفلام السير والمحادثة” حيث تتبع الكاميرا بطلين يقومان بالمشي مسافة طويلة وهما يراجعان حياتيهما.
صنف الفيلم الذي بدأ عرضه منذ يناير العام الجاري، ضمن عروض أفلام رأس السنة، على أنه دراما رومانسية مصرية، يشارك في بطولتها أحمد مالك وآية سماحة، وتدور أحداثها حول قصة حب بين يوسف وعالية، الرفيقين اللذين افترقا في مرحلة الثانوية بسبب ظروف قاهرة، ثم تجمعهما الصدفة بعد سنوات، ليكتشفا أن مشاعرهما قد تغيرت بمرور الزمن.
أخرج كريم شعبان الفيلم بأسلوب هادئ ومؤثر، هكذا وصفه البعض، وهو لمن سيشاهده بالفعل كذلك، فيلم هادئ لا يستعرض أحداثا صادمة ولا مواقف وشخوصا كثيرة بعلاقات متشعبة وشائكة، إنما هو فيلم هادئ يسير بإيقاع متوازن، لا يجعلك تنفر من إكمال مشاهدته ولا تركض كي تجاري نسق العمل، في حين يركز على التفاصيل اليومية والتفاعلات العاطفية بين الشخصيات التي تلتقي مرة كل عام في موعد سنوي ثابت -تتجاوزه أحيانا للعام الذي يليه- وهو التاسع عشر من شهر ديسمبر، يوم يبوح فيه كل طرف للآخر بأحدث التطورات في حياته خلال عام كامل.
“السنين بتغيرنا إحنا، لكن ما بتغيرش نظرتنا لبعض” (السنوات يمكن أن تغير شخصياتنا، لكنها لا يمكن أن تغير نظرتنا إلى بعضنا البعض)، جملة تختصر الفيلم، بكل أحداثه وتفاصيله، حيث تركز كاميرا المخرج عبر لقطات متنوعة بين القريبة جدا والبعيدة، على حركات الجسد وتعبيرات وجه الممثلين، وهما يلتقيان كل عام، قلباهما يمتلآن بالحب لكن حياتيهما تتحكم فيهما المشاكل، ظروفهما مختلفة واختياراتهما “قهرية”، وكلما سعى أحدهما نحو الآخر وجد نفسه يبتعد عنه أكثر.
حب كتب له ألا يتطور، رغم كبره، حتى اللحظات الأخيرة في العمل، حين تجد عالية نفسها تطلب من يوسف أن يتزوجا، بعد أن انقشعت كل العوائق بينهما، لكنه يرفض، يقول إن الحب ليس كافيا ليتخذا قرارا مثل هذا، ويدعوها إلى ترك الأمر للصدفة التي جمعتهما أول مرة، فكان للصدفة قرارها بأن جمعتهما مرة ثانية داخل صالة السينما وكل واحد منهما حجز تذكرة تذكره بذكريات الصبا.
“الهوى سلطان”، فيلم ذهب البطلان إلى دار السينما لمشاهدته، وكان أشبه برسالة من مخرج الفيلم كريم شعبان، مفادها أن للعشق سلطته على البشر، وإن قدر لأحد أن يلتقي بالآخر ويكمل الحياة بصحبته، فلن يمنعه من ذلك أي ظرف من الظروف.
ولم يعرض المخرج والكاتب هذه التوليفة الدرامية في شكل حكاية حب تواجه الكثير من التحديات فقط، وإنما عززا شاعرية القصة بالمرور على مشاكل أخرى مهمة في المجتمع المصري، منها العنف الممارس ضد النساء، ومشاكل الطلاق وتأثيرها على الأبناء، والتفاوت الطبقي، والصراع بين الأجيال، وفقدان الهوية، والضغوط المهنية، والعلاقات الأسرية، وأيضا العنف بشتى أنواعه، إلى جانب موضوع مهم هو تجميد البويضات.
وصور الفيلم في مواقع حقيقية، أضفت طابعًا واقعيًا على الأحداث وأظهرت مناطق مختلفة من القاهرة ومن أهم معالمها، كما استخدم مدير التصوير محمد عبدالرؤوف إضاءة طبيعية وألوانا دافئة لتعزيز الأجواء الرومانسية والشعور بالحنين إلى الماضي الذي يظهره بطلا الفيلم في كل مرة يلتقيان فيها، إلى جانب شعورهما بعدم القدرة على أن يكونا معا رغم تبادلهما مشاعر حب عميقة.
وكان بطل العمل أحمد مالك قد كشف في تصريحات عن التحديات التي واجهها أثناء تقديم شخصيته في “6 أيام”، موضحًا أنه كان يجسد خمس شخصيات في شخصية واحدة، نظرًا لاختلاف مراحل الزمن التي مرت بها الشخصية، والتغيرات الكبرى في هويتها.
وبتتبع مسيرة النجم الشاب (لم يتجاوز 29 سنة) يظهر أنه نجح في مراكمة تجربة فنية مميزة ومختلفة مقارنة بممثلين من جيله، ويظهر التزاما بالتنويع في أدواره واختياراته للشخصيات التي يتقمصها إلى جانب مواضيع أعماله التي تبدو مختلفة عن الرائج في السينما المصرية، ويبدو أنه لا يهاب المشاركة في تجارب صادمة للجمهور.
ومن أبرز الأعمال السينمائية التي شارك فيها مالك فيلم “الجزيرة” عام 2014، ثم فيلم “هيبتا: المحاضرة الأخيرة” في عام 2016 حيث كان أحد أبطال الفيلم، تلاه فيلم “الشيخ جاكسون” عام 2017، حيث لعب دور الأخ الأصغر لبطل الفيلم أحمد الفيشاوي، وترشح الفيلم إلى جوائز الأوسكار. بعد ذلك غامر بالمشاركة في فيلم “الضيف” عام 2018، حيث لعب دور الشاب المتطرف فكريا والذي يحاول قتل أحد المفكرين التنويريين بمصر في عقر داره، وقد أثار الفيلم جدلا كبيرا وتحديدا لما قدمه من حوارات ونقاشات فكرية عميقة بين أحمد مالك والمفكر يحيي حسين التيجاني الذي لعب دوره الممثل خالد الصاوي.
ثم شارك عام 2019 في فيلم “رأس السنة” الذي سلط الضوء على الصراع الطبقي من خلال أشخاص يتعرضون لمواقف مختلفة خلال احتفالهم برأس السنة الجديدة.
وبعد ذلك بعامين ظهر في فيلم “كيرة والجن” بدور إبراهيم شوكت، شاب فدائي يشارك في عمليات المقاومة ضد الاحتلال البريطاني خلال أحداث الفيلم. وفي عام 2021 جسّد أيضا أول بطولة دولية له في دور مهاجر أفغاني ضمن أحداث فيلم أسترالي، لكنه سرعان ما عاد إلى لعب أدوار في أفلام عربية، منها فيلم “قمر 14” عام 2022، الذي كان بداية عودته إلى السينما الرومانسية.
وليس غريبا عن أحمد مالك تمرده في السينما، فهو إنسان يظهر شخصية متمردة على السائد، لا تخشى إبداء آرائها وخوض التجربة، وقد وضعته آراؤه سابقا في مواقف مهنية حرجة، لعل أبرزها موقفه من الشرطة المصرية، حيث ظهر رفقة مراسل برنامج “أبلة فاهيتا” شادي حسين وهما يمزحان مع عناصر من الشرطة باستخدام واقيات ذكرية على شكل بالونات، وأثارت الواقعة جدلا كبيرا وغضبا جماهيريا ضده، كما حولته نقابة المهن التمثيلية إلى التحقيق.
ورغم أنه تلقى تدريبات في أستوديوهات عالمية، منها “ستوديو الممثل” في الولايات المتحدة، وكان من الوجوه المصرية القليلة التي تحاول الانتقال إلى السينما العالمية، إلا أنه خرج مؤخرا بتصريح صادم حيث عبر عن عدم رغبته في التمثيل مجددا في السينما العالمية بسبب المواقف السياسية من القضية الفلسطينية.
وقال “في السابق كان الفنانون العرب محصورين في أدوار مرتبطة بالإرهاب، واليوم نجد أنفسنا محصورين في أدوار اللاجئين، وبعد ما يحدث في فلسطين، أصبحت غير مهتم بالمشاركة في الأعمال العالمية، نظرًا لتوجهاتهم. أفضل أن أوجه طاقتي ومجهودي لدعم صناعة الفن في مصر والوطن العربي ولأسرتي.”
كما تطرق مالك إلى تجربته في فيلم “6 أيام”، مشيرًا إلى أن مخرج العمل كريم شعبان حرص على الاستعانة بمدرب تمثيل لمساعدة الممثلين على إتقان أدوارهم المختلفة بحسب المراحل العمرية التي يجسدونها، وأوضح أن هذه التجربة كانت مفيدة له على المستوى الفني والشخصي، قائلا “الممثل مسؤول عن دوره، وهذه الخطوة ساعدتني كثيرًا في تعميق أدائي وتطوير أدواتي.”
أسلوب “المشي والحديث” (Walk and Talk) هو تقنية إخراجية وسردية شائعة تُستخدم في السينما الغربية بكثرة، وتركز على عرض حوار بين شخصيتين أو أكثر بينما يسيرون معًا.
يهدف هذا الأسلوب إلى جعل المَشاهد أكثر حيوية وانسيابية من خلال إدخال الحركة في الحوار، بدلاً من إبقائه ساكنًا كما في المشاهد التقليدية التي يُجرى فيها الحوار حول طاولة أو في غرفة مغلقة.
تعتمد هذه المشاهد غالبًا على تتبع الكاميرا للشخصيات وهي تسير، إما باستخدام لقطة طويلة أو لقطة تتبع، وهي تقنية تُستخدم بغرض إبراز التفاعل الطبيعي بين الشخصيات، وإضافة إيقاع بصري يعزز أثر الحوار على عواطف المتفرج. وكثيرًا ما تكون هذه الحوارات ذات طابع ذكي، سريع، متشنج أو عاطفي، حيث يُستخدم المشي كوسيلة لنقل التوتر والتركيز على تأثيرات عامل الزمن على الشخصيات عوض عامل المكان.
وتتميز هذه التقنية بواقعيتها، حيث يجعل المشي الحديث يبدو طبيعيًا، ويمنح الجمهور شعورًا بأنه يرافق الشخصيات في رحلتها أو في لحظة خاصة من حياتها.
برز هذا الأسلوب بشكل واضح في أعمال الكاتب والمخرج آرون سوركين، خاصة في مسلسل “The West Wing”، كما استخدمه كوينتن تارانتينو لإبراز الطابع العفوي والفلسفي في حوارات الشخصيات.
أما في السينما العربية فلم يُستخدم هذا الأسلوب بكثرة ولم يعتمد سابقا كنوع سينمائي بعينه كما في الغرب، لكنه بدأ يظهر في بعض الأعمال الحديثة التي تهتم بالإخراج الحركي والحوارات الطبيعية، ويمكن أن يعتبر فيلم “6 أيام” من الأعمال المؤسسة لهذا النهج.
رغم ذلك رآه بعض النقاد استنساخا لفيلم “يوم واحد” (One Day) الذي عرض عام عام 2011 للمخرجة الدنماركية الأصل لون شرفيج، عن رواية للكاتب ديفيد نيكلوس، وقام ببطولته آن هيثاوي وجيم ستوجيس عن حكاية شاب وفتاة، يلتقيان يوما واحدا فقط في العام لمدة 18 سنة متوالية.