أبيغوس.. حكاية مضادة لعاطفة الأمومة وفلسفة الألم

توقفت الروايات العربية المعاصرة عن تقديم الحكايات، وغاصت أكثر في تتبع الظواهر وطرح الأسئلة الحارقة بأساليب متنوعة ومتعددة لكن محركها واحد هو الجرأة في الطرح. رواية “أبيغوس” للكاتبة السورية جهينة العوام من هذه الروايات، التي تتجاوز حدود الجنس الأدبي وتمزج العوالم بوعي لتورطنا في لعبتها السردية.
اختارت الكاتبة السورية جهينة العوام هذا الاقتباس المثير والأنيق لظهر غلاف روايتها “أبيغوس”، تقول فيه “هذه الحكاية رويتها عشرات المرات. كنت آنذاك أنجيلا جوليا تحب الأساطير كثيرا. وفي تلك الليلة التي تدفقت فيها اعترافاتي أخبرتها إنها آلهة القمر التي توقعت منها التخلي عن كل شيءٍ لأجلي، لكنها قالت لي إن الأنوار لا تترك مكانها لأجلكِ، إنما لأجل الحب.”
وهي بذلك اختارت أن تشتبك ودفعتنا إلى الاشتباك أيضا مع نص يستلهم عمقا معرفيا فلسفيا مع عدد من المتون الأدبية والفكرية، لاسيما ألبير كامو، في موضوع العبث وقلق الهوية، مع فرانز كافكا، في تصوير البطل الغريب عن العالم، العاجز عن الفعل، ومع الشعر العربي الحديث (السياب، أدونيس، درويش) من خلال التوتر بين الحلم والانكسار.
تصدع الأمومة
تنتمي رواية “أبيغوس” إلى نمط الرواية التي تقوض البناء التقليدي للحكاية. فالسرد فيها يتسم بالتشظي، وعدم الخضوع لمنطق تسلسلي زمني خطي. تبدأ الرواية من نقطة غير يقينية، ويبدو أن السارد نفسه غير واثق من موقعه داخل الحدث، مما يجعل القارئ في موقع المتلقي المتسائل لا المشارك المتعاطف.
نحن هنا لا نواجه سردا تقليديا، بل نصا مكتنزا بالألم، مسكونا بالمرآة، ومشحونا بتجليات فلسفية عن الجسد، الهوية، والعلاقة المضطربة بين الإنسان والآخر، لاسيما عندما يكون الآخر أما والروائية لا تسرد فقط، بل تعرض سيرة ذاتية متخيلة أو محتملة، تتقاطع فيها حدود الواقع والمتخيل، الشخصي والجمعي، الجسد والوعي، لتقدم نصا استثنائيا يستحق التوقف عنده طويلا.
اللغة في “أبيغوس” ليست أداة تواصل، بل معضلة وجودية. فهي تنطوي على تردد معرفي وأخلاقي، وتحمل في طياتها شكا في القدرة على تمثيل الحقيقة. تستخدم الكاتبة تراكيب لغوية مكثفة، مشحونة بالتوتر والدلالة، ويغلب على النص الطابع الاستعاري والتضميني، ما يجعل اللغة بطلا قائما بذاته داخل النص.
يتحول النص إلى ساحة لغوية تتصارع فيها الذات مع اللغة نفسها، وتطرح أسئلة من قبيل: هل تستطيع اللغة احتواء التجربة؟ وما حدود التعبير في ظل القمع السياسي والتمزق النفسي؟ وهل يمكن للكلمة أن تحرر أم أنها امتداد لقيد أعمق؟
هكذا تتحول اللغة إلى أداة كشف لا تغطية، وإلى مرآة للذات القلقة والممزقة، لا وسيلة لترميمها.
اللغة في “أبيغوس” هي البطل الخفي. إنها لغة متوترة، فخمة، متخمة بالاستعارات، تعج بالمفارقات، وتحمل عبء التجربة الثقيلة. النص لا يروى بل ينحت نحتا، حيث كل جملة تحمل بعدا شعوريا وفكريا كثيفا. الجمل طويلة غالبا، تتدفق بلا توقف كأنها أفكار مشتعلة تلاحق القارئ وتستنطقه.
في الكثير من المقاطع، تتحول اللغة إلى نوع من “المونولوج الداخلي الفلسفي”، تذكر بأساليب موريس بلانشو أو توماس برنهارد. إنها ليست مجرد أداة للسرد، بل تجربة قائمة بذاتها، تعيد تشكيل الواقع حسب إيقاعها الخاص.
نحن هنا لا نواجه سردا تقليديا، بل نصا مكتنزا بالألم ومشحونا بتجليات فلسفية عن الجسد والهوية والعلاقة المضطربة
في قلب النص، تتربع “جانيت” بوصفها نقيضا مطلقا لفكرة الأمومة. هي ليست فقط أما فاشلة، بل معادية للمشاعر التقليدية المرتبطة بالأم: الحنان، التضحية، الحماية. تصر على إنكار ابنتها، تخفيها في العالم السفلي، تحاصرها ضمن مختبر تجارب، وتستخدمها كأداة لمشروعها التجاري والنفسي. هذا النفي المتكرر لأنجيلا يعكس نزعة جانيت في إعادة تشكيل العالم حسب رغباتها، بعيدا عن العواطف والالتزامات الأخلاقية.
جانيت لا تعيش كأم، بل كمخططة ومالكة وصانعة فرص. تغلف علاقتها بالعالم بالدهاء، بالتجميل، بالإخفاء والتلاعب، بينما الحقيقة الوحيدة التي لا تستطيع التحكم بها هي أنجيلا، التي تشكل نقطة ضعفها وفضيحتها، وربما مرآتها القاتمة التي حاولت دفنها.
أنجيلا ليست فقط شخصية روائية، بل تمثيل مجازي للوعي المغيب، للابن المهمل، للصوت الذي لا يسمع. مريضة نفسيا، لكنها حادة الذكاء، مهووسة بالضوء، بالألوان، بالنباتات، والاختبار. هي أيضا باحثة عن أصلها، عن سؤالها الوجودي الكبير: “أنا من؟”. نشأت في عزلة قسرية، وورثت عالما من الكتمان والتجريب والتعتيم.
ورغم كل شيء، حافظت على نبضها الداخلي. حتى في صمتها الطويل بعد اختفاء جوليا، وحتى بعد ما يبدو أنه جريمة قتل لأمها، لا تنفجر بالصراخ، بل تختفي كما اختفت أمها، في سردية دائرية، غامضة، متشابكة. أنجيلا تمثل الجرح الصامت، ورد الفعل المؤجل، لكنها أيضا مرآة مكسورة لا تعكس إلا التشوهات.
يقدم النص شخصية “آدم” أو “أبيغوس” الاسم المستعار الذي ينتخبه لنفسه، بوصفه نتاجا مشوها لحياة مأزومة ومقطعة. ولد من أم لا تريد الاعتراف به، ونشأ في بيئة تغذي العزلة وتستنبت الألم، مصاب بإعاقة حسية، فاقد لحاستي الذوق والشم، ويعاني اضطرابات نفسية معقدة.
يصف نفسه بأنه “ضفدع بشري”، وهي استعارة ثقيلة ومثيرة في آن، تشير إلى تجربة تمزج بين العلم والأسطورة، بين المختبر والحكاية، بين التجربة البيولوجية والقهر النفسي. هذه الاستعارة تحوله إلى كائن هجين، يختبر الحياة دون مرجعية بشرية مكتملة. الضفدع هنا ليس فقط تشبيها سطحيا، بل استعارة عميقة لتجربة المسخ والتحول والاختبار القاسي.
أسطورة الهوية
تشغل المرايا حيزا رمزيا هائلا في النص، فهي ليست مجرد أدوات انعكاس بصري، بل آليات تشخيص نفسي. لكل شخصية علاقتها الخاصة مع المرآة، خاصة أنجيلا والراوي، فكلاهما يرى في المرآة ما لا يقال، ما يخجل، ما يطمس. المرايا تحاكم، تفضح، تحلل، وتستدعي الماضي والاحتمال. كما أنها تقدم صورة متغيرة، متعددة، غير ثابتة، تماما مثل هوية الشخصيات.
الراوي نفسه يسكن غرفة مرايا، يعيش في مواجهتها، ويتحول مع الزمن إلى مرآة للآخرين، خصوصا أمه. كل مرايا النص مشروخة، مشوهة، لكنها الوحيدة القادرة على منح الشخصيات اعترافا بوجودها، ولو بصورة ناقصة.
تحت الغلاف النفسي والفني للنص، يلوح سؤال العدالة بحدة. هل ما فعلته أنجيلا كان انتقاما أم بحثا عن خلاص؟ هل اختفاء جانيت كان قدرا أو نتيجة لسلوكها القاسي؟ هل الحب مبرر كاف للبقاء أم سبب للفرار؟
النص لا يقدم أجوبة واضحة، بل يبقي كل الخيارات مفتوحة، في سردية تتجنب الحسم الأخلاقي. شخصياته معذبة، مخطئة، ضحية وجانية في آن. ولذلك، يبدو أن فكرة “العدالة الأرضية” غير واردة، وأن ما يحكم المصائر هو خليط من الندم، والخوف، والصدفة، والماضي المتراكم.
في نهاية النص، نتابع تحول الراوي من “آدم” إلى “أبيغوس”، الاسم المستعار المأخوذ من أسطورة مفقودة. هذا التحول ليس مجرد تغيير في الاسم، بل إعادة ولادة بعد انهيار كل شيء: الأم، الحواس، الحب، الطفولة، المرايا. “أبيغوس” هو إعلان تمرد على المصير، وادعاء للسيادة على سردية الحياة، مهما كانت ممزقة.
المرايا تشغل حيزا رمزيا هائلا في النص، فهي ليست مجرد أدوات انعكاس بصري، بل آليات تشخيص نفسي. لكل شخصية علاقتها الخاصة مع المرآة
الاسم الجديد يصبح شعارا لحياة مصنوعة لا موروثة، لتجربة تنتمي إلى الذات، لا إلى الآخرين. وهو بذلك ينتزع تعريفه من الرماد، رافضا أن يكون مجرد ضحية أو ضفدع، ويعيد تشكيل ذاته كشخصية رمزية في فضاء وجودي مفتوح.
“أبيغوس” ليس نصا يمكن تأطيره بسهولة، ولا يمكن اختزاله في جملة أو ثيمة. إنه نص متفجر بالاحتمالات، متشابك الأبعاد، ينبض بالألم والجمال، ويؤسس لنوع من الكتابة تتقاطع فيها الأشكال الأدبية: السيرة، الرواية، القصيدة، الاعتراف، المرافعة النفسية.
قد لا ترضي أبيغوس القارئ التقليدي، لكنها بلا شك تهز القارئ المتورط في الأسئلة الكبرى عن “الذات”، و”الآخر”، و”الهوية”، و”الألم”، وتترك أثرا طويلا، كما تفعل المرايا: لا تعطي الحقيقة، لكنها تكشف هشاشتنا أمامها. إن “أبيغوس” ليست فقط تجربة سردية جمالية، بل هي مشروع معرفي صغير، يسائل اللغة، الهوية، والواقع في آن، وهي في ذلك تنتمي إلى الروايات العربية الجديدة التي تتجاوز الحكاية نحو التخييل التأويلي، وتجعل من الرواية ساحة للتفكير، لا فقط للتسلية أو التوثيق.
ويذكر أن رواية “أبيغوس” صدرت مؤخرا عن دار “أورورا” الكندية للنشر والتوزيع وفي سلسلة “أدب العالم”، وجاءت في طبعة أنيقة من القطع الصغير بتصدير من الشاعر والروائي التونسي لطفي الشابي.
أما جهينة العوام فهي روائية وكاتبة سيناريو سورية مقيمة بدولة الإمارات، صدر لها في الرواية، “تحت سرة القمر”، “أنثى برية” و”واو الدهشة”، وفي القصة “العصفورة السحرية”. كتبت العديد من المقالات في المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية العربية، وخاضت تجربتين في الإخراج السينمائي عبر فيلمين قصيرين هما “نص نعل” و”فاصلة منقوطة”.