"الجرار المكسورة": سيرة فرديّة أم تشريح أمّة

الرواية نص تأملي صعب المراس يواجه القارئ بمرآة مقلقة.
الخميس 2025/06/05
شخصيات تبحث في وجودها (لوحة للفنان ربيع كيوان)

لم تعد الروايات المعاصرة تلاحق أسلوب الإخبار والسرد الخطي والشخصيات المتصارعة وغيرها من عناصر لرسم ملامح حكاية ما قد تصلح للتسلية، فالروايات اليوم تهتم أكثر بإثارة القضايا والأسئلة العميقة بأساليب متنوعة ومتجددة تساهم مع كل عمل في تجديد فعل الكتابة الروائية، كما هو حال رواية "الجرار المكسورة".

في روايته “الجرار المكسورة” يقدّم الكاتب السوداني عصام عبدالغفور عملا أدبيا فريدا من حيث الشكل والمضمون، يخرج عن التقاليد الروائية السائدة ليبني عالما سرديّا مفتوحا على التأمل الفلسفي، والقلق الوجودي، والبحث المضني عن الذات في عالم يفقد اتزانه باستمرار.

في حين تبدو الرواية في ظاهرها حديثا عن خمسة أفراد وهم شخصيات الرواية تباعا، إلاّ أنّ تحت هذا السطح الذي يبدو هادئا تدور في القاع دواوير هائجة من التأمّلات الجماعيّة. “الجرار المكسورة” ليست رواية شخصيات تائهة حائرة بل تتجاوز ذلك إلى رواية المجتمعات المفكّكة، والحضارات التي فقدت بوصلتها والهويّات الثقافيّة التائهة بين “غرب مغر لكنّه يحتضر” و”شرق خانق لكنّه يحافظ على فحولته”.

تكسير الزمن والهويّة

تشبه الرواية في بنيتها وعوالمها جرّة ألقيت من عل فكانت النتيجة: شظايا مبعثرة من الذكريات، والمواقف، والشخصيات، تتداخل وتتصادم وتتآلف أحيانا، فينشغل الكاتب في محاولة لململة الشظايا ليعيد تركيب صورة الإنسان المعاصر، خاصّة في السياقات العربية والأفريقية، وسط عالم يضيق عليه من كل جانب.

لا تتبنّى “الجرار المكسورة” بناء خطّيا تقليديا، فالزمن الروائيّ مفكّك، متناثر، غير خاضع لأيّ منطق سببيّ واضح، ما يجعل القارئ لا يتتبّع قصة تقليديّة بمقدّمة وعقدة وخاتمة، بل يدخل في تجربة حسّية وذهنية تمزج الحلم بالواقع، الماضي بالمستقبل، والجوّاني بالبرّانيّ. والإيقاع هنا لا يبدو “بوليفونيّا” كما نتوهم، بل كلاسيكيّا في نوعيّة السرد القائم على راو عليم، يتوخّى رؤى سرديّة متعدّدة، تمنح القارئ القدرة على النفاذ إلى بواطن الشخصيّات التي تأخذ زمام الحكي أحيانا متكئة على التداعي الحرّ والحكي الذي يشبه البوح والاعتراف.

h

هذا التفكّك ليس ارتجاليا، بل يأتي منسجما مع المضمون، حيث تنسحب الانهيارات الزمنية على انهيارات الشخصيات، وهشاشة الفضاءات، وتبعثر العلاقات الاجتماعية. العالم هنا بلا مركز، بلا مرجعية واضحة، وكأن الرواية تصرخ صراحة: لا أحد يعرف إلى أين يتجه.

تضمّ الرواية مجموعة من الشخصيات، خمس أساسيّة تتنقّل بين فضاءات مختلفة: السودان، أوروبا، المخيمات، المدن، الغربة، السجون، والمستشفيات. لكنها رغم اختلاف مواقعها الجغرافية، تتشابه في كونها أصواتا ضائعة تبحث عن مخرج من دائرة القلق الوجودي التي تحاصرها.

“ميندا”، “ياسين أبوشامة”،”يونس”، “باكر ميرغني”، “جمال نجم الدّين” شخصيّات من مشارب مختلفة، تتقاطع أقدارها حول قاسم مشترك هو الانكسار والتشظّي أمام الواقع، وإدراكها العميق بأنها قطع من “جرّة مكسورة” لا يمكن إعادة لصقها كما كانت.

الرواية في جوهرها صرخة وجوديّة، تسأل: ما جدوى الحياة في عالم محطّم؟ هل لا يزال هناك معنى للحريّة والعدالة والهويّة؟ الشخصيّات ليست فقط ضحايا لأنظمة سياسيّة أو ظروف اجتماعيّة، بل أيضا ضحايا وعي منهك، وعجز عن التكيّف مع عالم سريع متحوّل يشبه المسوخ ومتناقض ويغرق في الفردانية والنفعيّة.

 ويمكن القول إنّ الرواية تحمل موقفا نقديّا حادّا من “الحداثة الزائفة” ومن وهم التقدّم الذي لا يمنح الإنسان سوى مزيد من الاغتراب.

العنوان نفسه “الجرار المكسورة” لا يمكن التعامل معه كعنوان مجازي فقط، بل كمفتاح تأويلي للعمل بأكمله، فالجرّة هنا تمثّل الذات البشرية، أو ربما الهوية الثقافية، أو حتى الحضارة المعاصرة التي تعرّضت للكسر نتيجة التناقضات والصراعات والاستلاب والشتات. ويستعير الكاتب في هذا الإطار صورة الجرّة المحطّمة ليؤكد استحالة العودة إلى “وحدة متماسكة” للذات أو للمجتمع، إذ كلّ المتاح لا يعدو أن يكون سوى محاولة الفهم، ومحاولة السرد، ومحاولة الترميم رغم استحالة الكمال.

الشعرية تواجه الانكسار

عصام عبدالغفور حول روايته إلى "منصة حوار داخلية"، ليس بين الشخصيات فحسب، بل بين الكاتب والقارئ
عصام عبدالغفور حول روايته إلى "منصة حوار داخلية"، ليس بين الشخصيات فحسب، بل بين الكاتب والقارئ

ينهض المتن الروائيّ على لغة عالية النبرة، شعريّة أحيانا فلسفية أحيانا أخرى، جملها طويلة متعرّجة متدفقة، متناصّة مع نصوص دينيّة وفكريّة، تحيل إلى رموز متعدّدة تجعل منها نصّا يتطلّب قارئا صبورا ومتمرّسا. إنّه نصّ صعب المراس لا يسعى لإرضاء القارئ بل لدفعه إلى التفكير والارتياب والقلق. الجمل طويلة، متداخلة، مليئة بالإحالات الثقافية والفكرية، ما يجعل الرواية أقرب إلى نص مفتوح من كونها سردا خطيا. هذا الأسلوب قد يشكل تحديا لبعض القراء، لكنه في الوقت ذاته يمنح النص قوة أدبية حقيقية، تجعله جزءا من تيار روائي جديد يدمج بين الأدب والفلسفة والشهادة الشخصية.

لا تقدم “الجرار المكسورة” أجوبة، ولا تحكي قصة يمكن تلخيصها، بل تسرد أزمة: أزمة الإنسان، وأزمة المعنى، وأزمة الانتماء. هي عمل أدبي تأملي، يواجه القارئ بمرآة مقلقة تعكس تمزقه هو أيضا، وتدعوه إلى التفكير فيما تبقى من شظايا ذاته. وبهذا المعنى، الرواية تحتاج إلى أكثر من قراءة واحدة، وإلى قارئ لا يبحث عن التسلية، بل عن الحقيقة، أو على الأقلّ عن لحظة وعي مؤقتة وسط فوضى العالم.

إنّ تأثير الرواية لا يكمن فقط في مضمونها، بل أيضا في صيغتها الفنية التي تتحدى القارئ وتضعه في قلب العاصفة النفسية والروحية التي تعانيها الشخصيات. فكل شخصية تكتب، في حقيقتها، سيرة روحية جماعية تنسحب على مجتمعات بأكملها فقدت بوصلتها. لذلك، يمكن اعتبار الرواية شهادة على زمن كامل، أكثر من كونها قصّة لأفراد.

من الجوانب المثيرة في الرواية استخدامها المكثّف للرموز والإحالات الثقافية. فالشخصيات أحيانا تتحول إلى رموز لأفكار أو تيارات أو مواقف اجتماعية أو سياسية. كما يحضر في النص الكثير من التناص مع الأدب العالمي، خاصة مع الأدب الوجودي، وأعمال كافكا وألبير كامو وسارتر، وحتى إشارات إلى الأدب الديني والتصوف الإسلامي. هذه الإحالات لا تأتي كزينة لغوية، بل تشكّل عمقا دلاليا يثري النص ويمنحه بعدا كونيا.

الإنصات إلى الذات

الرواية لا تقدم أجوبة، ولا تحكي قصة يمكن تلخيصها، بل تسرد أزمة الإنسان، وأزمة المعنى، وأزمة الانتماء

أحد أبرز إنجازات عبدالغفور في هذا العمل هو قدرته على تحويل الرواية إلى ما يشبه “منصة حوار داخلية”، ليس بين الشخصيات فحسب، بل بين الكاتب والقارئ، وبين الفرد وعالمه، وبين الثقافة المحلية والعالمية. هذا الحوار لا يسعى إلى الحسم، بل إلى إثارة الأسئلة: ما الذي يعنيه أن تكون إنسانا في زمن مفكّك؟ أين تبدأ الحرية وأين تنتهي؟ هل الغربة قدر وجودي أم خيار أخلاقي؟

رغم الطابع السوداوي الذي يلفّ الرواية، فإنّها ليست رواية يأس، بل محاولة لصياغة معنى داخل الركام، هي بحث مرير عن الضوء في نفق مظلم طويل، ومحاولة للقبض على شيء من الإنسان في زمن الآلة والانهيارات السياسية والاجتماعية. والأسلوب المتداخل بين الأصوات، وتعدّد مستويات السرد، واستخدام المونولوج الداخلي، كلها عناصر تعزّز ثراء التجربة وتضع القارئ في مواجهة مباشرة مع الذات العارية التي تمثلها كلّ شخصية كما لو أنّها تتوجّه لك بالخطاب: “أنا مرآتك، فانظر جيدا.”

ويبدو أنّ عصام عبدالغفور يدعونا من خلال هذه الرواية إلى ممارسة الفعل النادر “الإنصات إلى الذات وسط الصخب.” وما يجعل “الجرار المكسورة” عملا مهما ليس فقط ما تقوله، بل كيف تقوله. وجرأته ليست في القول فقط بل في الطرح أيضا واتساق رؤيته الفكرية مع شكله الفنيّ، والرواية ها هنا تقول بصريح العبارة شكلا ومضمونا “إنّه زمن محطّم وهذه مراياه المتشظية وجراره المكسورة، تعيد الاعتبار للإنسان بوصفه سؤالا مفتوحا، لا إجابة جاهزة، ولا خلاصَ فيه سوى بالفنّ.”

ويذكر أن عصام عبدالغفور كاتب ومسرحيّ سودانيّ مقيم بالمهجر الكندي، صدرت له روايتان باللغة العربيّة: “حانة الخنفساء” و”قاسم زودي”، وثلاثة أعمال مسرحيّة بالإنجليزيّة: “أشباح العبث”، “عطر الياسمين الذي لا يفوح” و”المشي على العنب الأحمر”.

وتأتي “الجرار المكسورة” كآخر أعماله الروائيّة، صدرت في طبعة أنيقة عن دار “أورورا” الكنديّة للنشر والتوزيع ضمن سلسلة الأدب الكندي المهاجر، في 155 صفحة من القطع الصغير، قدّم لها الشاعر والروائيّ التونسي المعروف لطفي الشابّي.

12