التفكير باستمرار في داعش سيعجّل بقدومها

الخميس 2015/03/26

“في بعض الأحيان يكون كلّ ما عليك فعله لتموت هو فقط أن تظن أنك مريض”. قياسا على ما قاله الصحفي ديفيد روبنسن، الذي توصل بمؤيدات علمية إلى أن الإصابة بمثل هذه المخاوف دون قصد غالبا ما تكون لها عواقب وخيمة، وعليه فإن كلّ ما يتوجّب فعله لاستقدام داعش، هو الإصابة بها والتفكير فيها باستمرار، وهي الفوبيا التي وقع ضحيتها ملايين الناس على وجه الأرض دون قصد أيضا.

تطالعنا مئات الفيديوهات عن فظاعات داعش وهي تحزّ الرؤوس، وتحرق الأحياء، فيجب أن نحترس من الكم الهائل من الخوف الذي نُقصفُ به لأننا نجهل ونحن خلف شاشة التلفاز أو الهاتف أنّ تلك الصور والفيديوهات ليست سوى تعاويذ سحرة تنشر أوبئة لا تراها بالعين، وإنما تتسرّب لنا ونحن في غفلة عن الأمر. فقد أدركنا منذ أمد طويل أن توقع داء ما وترقب الإصابة به يكون بنفس خطورة الإصابة به فعليا، فهل بإمكاننا نكران أننا تخيّلنا أنفسنا مكان ذلك المعصوب العينين الذي يستعد لتلقي رصاصة في الرأس؟ أو في الجهة الأخرى ذلك الملثّم يضع فوهة مسدسه فوق رأس التعيس الحظ، ويوشك أن يضغط على الزناد.

قوّة الإيحاء والإيهام التي تبثها تلك المشاهد الدموية بصورة مديدة، يمكن أن تؤذي ضحاياها من الصف الثاني. فإذا كان الذي قد فُجّر رأسه ونزف دمه قد مات وانتهى أمره، فأن من تقف خلف الشاشة يحسب أنه ربما يشعر بصداع في الرأس ورجف في كل البدن وألم في الأمعاء ورغبة ملحة في البكـاء والنشيج، وربمـا أدى كلّ ذلك إلى الموت أثناء النوم من الرعب. وقد أُطلق على كل تلك الأعراض اسم التأثير النفسي المضرّ بالصحة، والمأخوذ من اللاتينية من مفردة “نوسيبو” التي تعني “سوف أضر”.

أصبح الآن واضحا مدى سهولة انتشار تلك الظنون الخطرة والإيحاءات السلبية عن طريق تلك الفيديوهات السموم. ولعلّ ذلك يكون السبب في إصابة بعض بيوتنا “بفيروس داعش” فمثلما يتحدث الأشخاص الذين يعيشون على مقربة من توربينات الرياح عن إصابتهم بنوبات غامضة من دوار الرأس والأرق والقيء، اشتكى بعض أفراد تلك البيوت من أعراض “الدعششة” إذا جاز القول، بل ومارسوا على بعضهم البعض في حالات قصوى القتل على الطريقة الداعشية، كالذبح من الوريد إلى الوريد، أو الحرق، أو التمثيل بالجثث. بعض هؤلاء الأفراد هم دواعش في حالة كمون، وقتلة مؤجلون تشبّعوا بعنف متوفر وزائد عن الحاجة. ولن يكون عسيرا على الدواعش الأصليين تشغيلهم والدفع بهم إلى ساحة المعركة حالما تتوفّر الشروط لذلك. فيكفي قليل من الدمغجة والتدجين باستعمال عامل الدين لشرعنة القتل وتحويله إلى جهاد مقدس.

بعد فيديو حرق الكساسبة كان يجب أن تمتلئ عيادات الطب النفسي بالمرضى النفسيين.

حقّق فيديو حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة الأسير في قفصه الحديدي والمحاط بمقاتلي داعش، نسبة مشاهدة فاقت المليونين ونصف المليون من كلّ أنحاء العالم، على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي. كان الأمر شبيها بحالة الإقبال والانبهار نفسهما الذي أقبل بهما العالم قبل عقود على مشهد رجل الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ وهو ينزل من قمرة أبوبلو 11 ويضع أول موطئ قدم إنسانية على سطح القمر. فكيف تُحوّل الإنسانية فجأة عطشها لكلّ ما هو نجاح ورقيّ ومدنية، إلى ما هو وحشيّ وعدوانيّ ودمويّ وضد مبادئ الإنسانية جمعاء، وأيّ تفسير يمكنه تبرير ذلك الإقبال اللامشهود على مشاهدة رجل أعزل في قفص يحرق حيّا بكم هائل من الوجع والألم والمعاناة؟

لقد عرّى ذلك الإقبال ورقة التوت عن السلوك الإنساني وجعلنا نكتشف إلى أي درجة من الإحباط والانهزامية والسادية وصل إليها، حيث تعدى كل المحاذير وطرق كل الأبواب باحثا عن الإثارة والخروج من الضغط النفسي والبدني الذي أصبح يرزح تحتهما. ولئن أعزى بعض الأخصائيون النفسيون المتفائلون ذلك إلى حالة صحية نفسية سوية، حيث يندفع المشاهد العربي خاصة بدافع الوطنية باحثا له عن بطله الشعبي المفقود والذي لم يجده في الزعيم السياسي، أو بدافع حب الإطلاع، فإن غيرهم دقّ ناقوس الخطر محذرا من ارتفاع منسوب العنف والسادية في السلوك البشري، بل طالبوا كل من أتم مشاهدة الفيديو الذي استمر 24 دقيقة بالتوجه مباشرة إلى أقرب عيادة طبيب نفساني.

المؤسف أن الطبيب يمكن أن يزيد المرض دون قصد منه بالمبالغة في التحذير من خطر الإصابة بمضاعفات. فقد قام الباحث الإيطالي فابريزو بينيدتي بأخذ مئة طالب إلى أعالي جبال الآلب. أخبر واحدا منهم فقط بأن هناك احتمالا لإصابته بالصداع النصفي نتيجة لقلة الأوكسجين على ارتفاع 3000 فوق سطح البحر. خلال اليوم الأول من الرحلة اكتشف بينيديتي أن الشائعة قد نالت من ربع المجموعة، حيث بدأوا يعانون من أسوء صداع ممكن، والأكثر من ذلك فقد أظهرت دراسة أجريت على لعابهم وجود ردّة فعل مبالغ فيها تجاه حالة الأكسوجين بما في ذلك كثرة الإنزيمات المرتبطة بصداع الرأس الملازم للارتفاع عن سطح البحر.

نتذكر الآن ما تناقلته بعض الفضائيات التونسية، مؤخرا وعلى مدار أيام، خبر أن داعش تقبع على بعد ربع ساعة فقط من الجنوب التونسي، بقطع النظر عما إذا كان الخبر صحيحا أو مبالغا فيه أو إشاعة. ولنتخيل حالة الخوف التي راح ضحيتها الملايين، وهذا لا يعني أننا غير ملزمين بمعرفة الحقيقة أيا كان قبحها ودرجة تهديدها، ولكن من المؤكد التنصيص على أن يسبق ويخلّف إفشاء الحقائق المصيرية والمعلومات المتعلقة بالأمن القومي، معالجة نفسية جماعية تتمحور حول أن كلّ ما علينا محاربته هو مجرّد خوف داخلي لا غير، بل إن بعض علماء النفس شددوا على إعادة النظر في المقاييس التي سيجب اعتمادها في المستقبل في تسريب معلومات دون غيرها بقياس درجة تأثيرها في الجماعات.

يغزونا الأشرار في عقر دارنا دون أن يكونوا مجبرين على اجتياحنا بالجيوش والدبابات. إنهم يمارسون علينا تكتيك الحرب النفسية لأنهم يعلمون أن الانكسار المادي لن يتم سوى بالانكسار المعنوي والإحباط والهزيمة، مستعملين أسلحة الدمار الحديثة والفتاكة؛ الصورة. فهلاّ توصلنا الآن إلى مغزى استعمال داعش الصورة لترهيبنا في مفارقة عجيبة، حيث أنها كتنظيم مسلّح يتبنّى عقيدة دينية راديكالية تحارب الصورة أينما وجدت. إنه التنظيم الذي يحطم الآثار الآشورية في الموصل، ثم يبث فيديوهات غاية في الدقة والحرفية عبر الشبكة العنكبوتية، إنهم يدركون حجم تأثير الصورة علينا لذلك هم يقصفوننا كلّ يوم بصليّات من جهنم. إنهم يحاربون الحياة ويقتلونها فينا ليس إعلاء، كما يقولون، لكلمة الله وإنما إعلاء لكلمة الشيطان. يبقى المصل لهذا الطاعون هو الإقبال بكلّ قوة على الحياة وتذكّر أن داعش ليست سوى آلة حرب حديثة، لا علاقة لها بالهوية ولا بالدين ولا بالتاريخ. وأن هزمها يمر عبر هزم الخوف فينا لا غير.

صحفي وروائي تونسي

9