فشل استخباراتي إيراني واختراق إسرائيلي عميق

عرفت منطقة الشرق الأوسط ليلة عصيبة بالغة التعقيد، عكست هشاشة الوضع الأمني الإقليمي وأكدت المخاوف الجماعية من تصعيد عسكري وجيوسياسي قد يدخل المنطقة في صراع إقليمي قد يتحول إلى صراع دولي بالنظر إلى تداخل الديناميكيات المؤثرة في مفاعيل الأمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط.
الهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية، والذي استهدف بنى تحتية عسكرية حساسة ومراكز قيادية عليا للحرس الثوري، إضافة إلى منشآت إستراتيجية ضمن البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك منشأة نطنز شديدة التحصين، لا يمثل مجرد عملية عسكرية عابرة، بل يؤشر على تحول نوعي في ديناميكية الصراع الإقليمي قد ينتهي بسقوط النظام الإيراني وتغيير عنيف للسلطة يدخل البلاد في حرب أهلية سيؤدي ثمنها الشعب الإيراني الشقيق المختطف من رجال الدين.
لقد أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني أن رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة، محمد باقري، قد قُتل في الضربات الإسرائيلية، وهو أعلى مسؤول في الهيكل العسكري الإيراني. كما أفادت وكالة تسنيم بمقتل ستة علماء نوويين بارزين، من بينهم فريدون عباسي، الذي نجا من محاولة اغتيال سابقة.
دقة الأهداف التي تم استهدافها، وتزامن الهجوم مع أحداث داخلية إيرانية سابقة، يدعمان فرضية الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي العميق والمتجذر داخل مفاصل الدولة العميقة الإيرانية، الأمنية والعسكرية على حد السواء. هذا الاختراق لا يبدو عرضيًا أو ظرفيًا، بل يكشف عن فشل استخباراتي إيراني بنيوي ومستمر، ويؤكد أن آليات الحماية والتحصين في إيران لم تعد كافية لصد عمليات الاختراق المعقدة والمنظمة.
الشواهد على هذا الاختراق متعددة ومتراكمة على مدى سنوات. أولها تصفية الجنرال قاسم سليماني وزعيم ميليشيات الحشد الشعبي أبومهدي المهندس في عملية أميركية دقيقة بمطار بغداد في يناير 2020، ثم اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران في يوليو 2024 ، وهي عملية لم تكن لتتم لولا معلومات استخباراتية دقيقة حول تحركاته ومواقعه.
◙ دقة الأهداف التي تم استهدافها وتزامن الهجوم مع أحداث داخلية إيرانية سابقة يدعمان فرضية الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي العميق والمتجذر داخل مفاصل الدولة العميقة الإيرانية
يضاف إلى ذلك السقوط المريب لمروحية الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي وعمليات استهدفت وكلاء إيران في المنطقة كعملية البيجر ضد حزب الله وتصفية كامل الهيكل العسكري لحزب الله وحركة حماس في عمليات نوعية، بالإضافة إلى تحييد حسن نصرالله الزعيم السابق لميليشيا حزب الله، والذي يعتبر أكبر فشل استخباراتي لأجهزة المخابرات الخارجية الإيرانية المكلفة بالحماية الشخصية لكبار القادة الإقليميين للمشروع الإيراني في المنطقة.
رغم أن التحقيقات والتصريحات الرسمية لن تكشف عن أسباب خارجية أدت إلى هذه الكارثة العسكرية إلا أن تزامن الحادث مع حالة التوتر الإقليمي يثير تساؤلات جدية حول مدى وجود عوامل تخريبية محتملة، أو على الأقل استغلال لثغرات أمنية وتشغيلية في قمة البنية العسكرية والأمنية والاستخباراتية الإيرانية.
أعلن الجيش الإسرائيلي مشاركة 200 طائرة وقصف نحو 100 هدف في الهجوم على إيران. وسقط خمسون جريحًا على الأقل، بمن في ذلك أطفال ونساء. وصرح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي بأن عملية “الأسد الصاعد” قد بدأت، وأنهم “ضربوا أهدافًا نووية في قلب الأراضي الإيرانية،” ما يؤكد بشكل واضح على التفوق الإسرائيلي في لعبة كسر العظم بين طهران وإسرائيل.
هذه الأحداث مجتمعة تؤكد أن القدرة الإسرائيلية على جمع المعلومات وتنفيذ عمليات نوعية داخل الأراضي الإيرانية قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة. هذا الواقع يضع القيادة الإيرانية أمام تحديات وجودية تتعلق بإعادة تقييم شاملة لجهازها الأمني والاستخباراتي، والتعامل مع حقيقة أن خصمها يمتلك معلومات تفصيلية عن بنيتها الدفاعية وقدراتها الإستراتيجية.
الوضع الراهن ينذر بفتح الباب أمام حرب إقليمية كبرى قد تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بشكل جذري. فالهجوم على منشآت نووية، حتى لو كان محدودًا، يشكل تصعيدًا خطيرًا للغاية وتجاوزا لقواعد الاشتباك الإقليمية قد يدفع طهران نحو اتخاذ قرارات متطرفة تتعلق ببرنامجها النووي.
أمام هذا الاختراق والفشل من المتوقع أن تسعى إيران إلى توجيه ضربة مضادة لاستعادة ماء الوجه وردع المزيد من الهجمات. وقد تتخذ هذه الضربة أشكالًا مختلفة، من استهداف مصالح إسرائيلية أو غربية في المنطقة، إلى تفعيل أذرعها الإقليمية لشن هجمات على أهداف حساسة. وبالتالي فتحديد طبيعة وحجم الرد سيعتمد على تقييم طهران لقدراتها وتوقعاتها لردود الفعل الإسرائيلية والدولية، كما أن هذه التوترات المتصاعدة تهدد بتقويض ما تبقى من مفاعيل الاستقرار والأمن في المنطقة.
على ضوء ما سبق يواجه المجتمع الدولي، وخاصة القوى الكبرى، تحديًا بالغ الصعوبة في احتواء هذا التصعيد ومنع تحوله إلى نزاع مفتوح. الضغط الدبلوماسي اليوم هو المطلب الجوهري لكل شعوب المنطقة لكنه قد لا يكون كافيًا إذا قرر الطرفان المضي قدمًا في مسار التصعيد.
◙ رغم أن العملية تمثل ضربة موجعة للعمق الأمني الإيراني وتُظهر هشاشة بنيتها الاستخباراتية إلا أنه لا يمكن إغفال الديناميكيات الداخلية المعقدة التي ستستفيد من هذا التطور
في سياق آخر اسم العملية “الأسد الصاعد” المستوحى من نص توراتي، وتحديدًا من “الإصحاح 23:24” بالعهد القديم: “هوذا شعب يقوم كأسد عظيم، ويرتفع كشبل أسد. لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى،” يضفي على هذه العملية بعدًا أيديولوجيًا وعقائديًا عميقًا من منظور إسرائيلي. هذا الاختيار لا يعكس فقط طموحات إسرائيل لـتحقيق نصر حاسم وهيمنة إقليمية، بل يؤكد أيضًا على العمق اللاهوتي الذي تستمد منه بعض قراراتها الإستراتيجية في مواجهة الدولة الدينية في إيران وبالتالي توظيف مثل هذه الرموز التوراتية في سياق عسكري هو رسالة واضحة لكل من يعنيه الأمر بأن هذه المواجهة تتجاوز مجرد الصراع على النفوذ إلى ما هو أبعد.
وبالرغم من أن هذه العملية تمثل ضربة موجعة للعمق الأمني الإيراني، وتُظهر هشاشة بنيتها الاستخباراتية والأمنية، إلا أنه لا يمكن إغفال الديناميكيات الداخلية المعقدة التي ستستفيد من هذا التطور.
ففي ظل التوتر الإقليمي المتصاعد، والفشل الاستخباراتي المتمثل في اغتيال قيادات عسكرية رفيعة وعلماء نوويين، يبرز اسم مجتبى خامنئي كأحد المستفيدين الرئيسيين من هذه الأحداث، فتحييد مختلف قيادات الجيش الكبرى التي كانت تُعارض طموحاته في التربع على عرش إيران الإمبراطوري، يفتح له الباب واسعًا لتعزيز نفوذه وتعبيد الطريق نحو خلافة والده لكن بمواقف أكثر اعتدالا تجاه إسرائيل قد تنتهي بإعادة صياغة السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط على أسس جديدة.
هذا التطور الداخلي، وإن بدا ثانويًا في خضم الصراع الإقليمي المحتدم، فإنه يحمل تداعيات إستراتيجية بعيدة المدى على مستقبل النظام الإيراني وتوجهاته، اليوم نحن أمام مشهد إقليمي تتداخل فيه الحسابات الجيوسياسية المعقدة مع الطموحات الشخصية الداخلية، ما يجعل المشهد أكثر ضبابية وأشد خطورة. فهل نشهد بالفعل بزوغ عصر جديد من الفوضى الإقليمية، أم أن هذه الأحداث ستكون الشرارة التي تدفع الأطراف الفاعلة إلى إعادة تقييم شاملة لإستراتيجياتها والتوصل إلى اتفاق إقليمي شامل قد ينهي عقودا من الصراع؟