أكاديمية لاماسيا.. قبلة عشاق كرة "تيكي تاكا" في إسبانيا

حوّل الأسطورة الهولندية الطائر يوهان كرويف أكاديمية لاماسيا لكرة القدم من مجرد مدرسة تستقطب المواهب من أجل صقلها وتكوينها إلى عالم متكامل يحقن الأطفال الملتحقين بها بالحمض النووي الخاص بطريقة لعب وتفكير فريق العملاق الإسباني برشلونة.
مدريد - في إحدى مباريات برشلونة وصف المعلق لاعبي البلوجرانا من خريجي أكاديمية لاماسيا التابعة للنادي، وأنجح الأكاديميات الكروية في العالم، فقال على سبيل الدعابة “من يراهم يشعر كأنهم يشبهون بعضهم البعض، نفس الحجم، نفس طريقة اللعب، نفس طريقة الجري، نفس السلوك، نفس التواضع بل وأحيانا نفس قصة الشعر.”
ورغم روح الدعابة في هذا الوصف، إلا أن المعلق لم يبالغ كثيرا، لأن خريجي لاماسيا الذين اكتسحوا الأخضر واليابس هذا الموسم، وفازوا بكل البطولات المحلية في إسبانيا، يتشابهون في الحجم، ليس فقط من يلعبون حاليا في الفريق، وإنما منذ سنوات طويلة بدليل أن لاعبين مثل بيدري وجافي وكاسادو لا يختلفون في الحجم عن رموز برشلونة في أوقات سابقة، مثل إنييستا وتشافي.
اللاعبون لا يتخرجون من أكاديمية لاماسيا إلا بعد أن يجتازوا سنوات من التعليم والاختبارات العاطفية والنفسية القاسية
يكمن سر تشابه الأحجام بين خريجي لاماسيا في أن الأكاديمية تعتمد في اختيار الأطفال المنضمين إليها على معايير عقلية وتكتيكية قبل المهارات البدنية، وغالبا ما يكون الأطفال الأقل حجما هم من يتناسبون مع هذه المعايير، بينما الأقوى بدنيا يكونون مشغولين بالاستفادة من قدراتهم الجسدية بدلا من إضاعة الوقت في تنمية قدراتهم العقلية والتكتيكية.
ما لا يعرفه كثيرون عن هذا التشابه أنه لا يتوقف فقط عند حدود الشكل وإنما يمتد لانضباط سلوكي صارم وتواضع ملفت في شخصيات خريجي لاماسيا، والسر في ذلك يعود إلى الفلسفة التي تعمل بها الأكاديمية، وهي فلسفة جسدها شعارها الذي يقول “نحن لا نعد لاعبين فقط، بل نربي بشرا متوازنين،” ما يفسر الحرص على عدم ربط الطموح الرياضي بالمال منذ الصغر، حفاظا على التواضع والانضباط الذاتي.
ولا يتخرج اللاعبون من أكاديمية لاماسيا إلا بعد أن يجتازوا سنوات من التعليم والاختبارات العاطفية والنفسية القاسية، تحت إشراف أخصائيين يساعدون الأطفال على فهم مشاعرهم والتعامل مع القلق والخوف والضغط الجماهيري وحتى الغرور، ومن يفشل في اجتيازها أو التكيف مع الانضباط في الأكاديمية يتم طرده منها.
منزل بلانيس الريفي
تنقسم برامج التدريب إلى جوانب فنية وكروية ونفسية وشخصية، حيث لا يتم الاكتفاء بتنمية المهارات البدنية والفنية فقط، إنما تجري عملية “برمجة فكرية” كاملة لكل طفل، وهو ما حدث مع اللاعب الشاب لامين يامال حين وصف مدربه في الأكاديمية كيفية صياغة موهبته فقال تم “تفكيكه نفسيا” منذ الطفولة وأعيد بناء شخصيته من الصفر داخل لاماسيا، وتهدف تلك البرمجة إلى تكيف الأطفال مع أسلوب برشلونة الكروي المتمثل في القدرة على اتخاذ اللاعب القرار قبل أن تصله الكرة، ثم كيفية تسليم الكرة بشكل صحيح من لمسة واحدة أو لمستين فقط.
وتشمل التدريبات برامج لمحاكاة الضغط، يتعرض خلالها اللاعبون لمواقف صعبة يمكن أن تواجههم في المباريات الحقيقية بما قد يكون فيها من ضغوط جماهيرية أو تحكيمية، لتعويدهم على التفكير والتصرف في المواقف المشابهة دون ارتباك، كما لا يسمح للأطفال بالصراخ والاعتراض العنيف أو البكاء المتكرر، واللاعب الذي لا يضبط انفعالاته يسحب فورا من التدريب، ولا توجد استثناءات لأي لاعب، لأن التواضع في لاماسيا ليس خيارا، بل مادة دراسية إلزامية.
استمدت الأكاديمية اسمها من المبنى الذي استخدمه النادي عندما أنشأ الأكاديمية في عام 1979، وهو عبارة عن منزل ريفي قديم يقع بجانب ملعب كامب نو ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1702، كان يطلق عليه اسم “La Masia de Can Planes” وهي كلمة بالكتالونية ترجمتها “البيت الريفي لعائلة بلانيس”، وأعيد ترميمه في عهد رئيس برشلونة التاريخي جوزيب لويس نونيز (1978 – 2000) وتحول إلى سكن وتدريب للناشئين.
كان الهدف من الأكاديمية وقت تأسيسها أن تكون مدرسة للمواهب الكروية من أطفال كتالونيا، وقدمت بالفعل نجوما برزوا مع برشلونة في عصره الذهبي الأول تحت قيادة المدرب الهولندي الراحل يوهان كرويف، مثل بيب غوارديولا ومعه غييرمو آمور وألبرت فيرير، وتيتو فيلانويفا الذي درب الفريق بعد رحيل غوارديولا عام 2012.
والطفرة التي حدثت لاحقا وحولت الأكاديمية من مجرد مدرسة للمواهب إلى عالم متكامل يحقن الأطفال الملتحقين بها بالحمض النووي (DNA) الخاص بطريقة لعب وتفكير فريق برشلونة، كانت على يد كرويف نفسه صاحب أحدث وأنجح نسخة من نظرية “تيكي تاكا” الشهيرة، لتصبح مركزا تربويا متكاملا، وليس مجرد مدرسة لاكتشاف المواهب.
عندما تولّى كرويف تدريب الفريق الأول في أواخر الثمانينات لم يكتفِ بتطوير طريقة لعب هجومية، بل وضع رؤية شاملة للنادي تصلح للاستمرار لأجيال طويلة مقبلة، وكان أساس رؤيته بناء شخصية اللاعب قبل المهارة، مع غرس قيم التواضع والذكاء وروح الجماعة كشروط للنجاح، وأيضا رفض الغرور والمظهرية، وينقل عنه قوله للاعبي البارسا وقت أن كان يدربهم إن “اللاعب الذي لا يحترم زملاءه حتى في التدريبات، لا يستحق أن يرتدي قميص برشلونة.”
بإشراف كرويف تم وضع معظم المناهج الدراسية والقواعد السلوكية التي لا تزال سارية حتى الآن، والتي جعلت من لاماسيا “جنة المواهب” في أوروبا، والملفت أن التعليم الأكاديمي إلزامي والإخفاق فيه يعرض الناشئ للطرد من الأكاديمية، كما يتم تدريس مواد إضافية ومناهج تعليمية مثل الأخلاق والثقافة الكتالونية والإعلام وضبط النفس، ويتلقى الأطفال محاضرات أسبوعية من متخصصين حول التواضع واحترام الزملاء وتحمل النقد وأهمية الصمت وقت الإنجاز والبعد عن التصريحات.
في سبيل تكريس ثقافة التواضع وإنكار الذات لصالح الجماعة هناك مجموعة من القواعد التي قد تبدو غريبة للبعض، ويمنع الأطفال المتدربون نهائيا من ارتداء قمصان مزركشة طوال وجودهم في الأكاديمية، ولا يسمح لأي وسيلة إعلامية بدخول لاماسيا أو الالتقاء باللاعبين الأطفال تفاديا للإخلال بالانضباط الاجتماعي المفروض عليهم، وحمايتهم من تضخم ثقافة “الأنا” في سن مبكر، ما يقضي على مستقبلهم قبل أن يبدأ.
ويصل الانضباط إلى حدوده القصوى في مختلف التفاصيل داخل لاماسيا ليكون أسلوب حياة وليس مجرد نظام روتيني، حيث يتضمن مواعيد نوم محددة، وتعليما مدرسيا يوميا، مع نظام غذائي متوازن، وفي المقابل يمنع على الأطفال إبداء سلوك يعكس الغرور مثلما يمنع عنهم الحديث عن المال، ولا يسمح لهم بعمل حسابات ترويجية على السوشيال ميديا إلا بإذن من مشرفيهم.
المبنى الأصلي للأكاديمية الذي حمل اسم “La Masia” كان منزلا ريفيا يقع بجانب ملعب كامب نو، وكانت سعته الاستيعابية لا تزيد عن 30 طفلا متدربا، وظل مركزا لها حتى عام 2011، حينما قرر النادي إنشاء مقر جديد يتحمل استيعاب أعداد أكبر من الناشئين، وتقرر تحويل المقر القديم إلى رمز تاريخي يستعمل حاليا كمقر لبعض الإدارات ولا يزال يحظى باحترام كبير داخل النادي كـ”مهد الفلسفة”.
والمقر الحالي الذي يحمل اسم “أوريول تورت”، مكتشف المواهب الذي جلب لاعبين مثل غوارديولا وميسي، يقع داخل مدينة برشلونة الرياضية التي تحمل اسم “خوان جامبر” بمنطقة سان خوان ديسبي خارج المدينة، وأحد الأهداف من الانتقال لهذا المبنى مساعدة الأطفال على الاندماج في المدينة الرياضية، بحيث يعيش اللاعب ويتدرب ويدرس في مكان واحد دون تنقل.
يتميز المقر بأنه أكثر تطورا حيث يتسع لما يزيد عن 80 لاعبا، ويضم سكنا داخليا، وفصولا دراسية، وغرف تحليل فيديو، ومرافق طبية ومكان تأهيل بدني، ومساحات نفسية وتعليمية، بجانب التدريب والعيش بجوار ملاعب تدريب فريق برشلونة مما يساعد الأطفال على كسر حاجز الخوف من النجوم، ويعزز حماسهم ليكونوا ضمن هؤلاء النجوم في المستقبل.
تضم لاماسيا حاليا ما بين 250 إلى 300 لاعب تتراوح أعمارهم بين 7 و19 سنة، حيث تنتهي علاقة اللاعب مع الأكاديمية عادة في هذه السن، ما عدا بعض اللاعبين المميزين الذين يلتحقون بفريق برشلونة الرديف ويبلغون الحادية والعشرين وهو الحد الأقصى لأي لاعب لن ينضم إلى الفريق الأساسي، وأغلب الأطفال من سكان إقليم كتالونيا ويترددون على مقر الأكاديمية يوميا ويعودون إلى منازلهم في نهاية اليوم، وتقتصر الإقامة في المبنى السكني على اللاعبين المغتربين من خارج الإقليم.
المطرودون من الجنة
يتم اختيار الأطفال المنضمين إلى لاماسيا من خلال الكشّافين أو من فرق برشلونة الفرعية، ولا تفتح الأكاديمية للتسجيل العشوائي أو المدفوع، وبمجرد قبول الطفل يتكفل النادي بجميع المصروفات، مثلما حدث مع ليونيل ميسي حين تكفلت الأكاديمية بتكاليف علاجه من نقص هرمون النمو الذي كان يعاني منه حين انضم إليها.
وتتكفل لاماسيا بكل نفقات الأطفال بما في ذلك التعليم الأكاديمي من خلال مدارس معتمدة، وتكاليف التغذية الصحية تحت إشراف أطباء متخصصين، فضلا عن توفير الإقامة في مقر لاماسيا وحصص تدريبية احترافية بمعدل يومي، بجانب الدعم النفسي والرعاية الطبية اليومية تحت إشراف طاقم طبي متخصص. ولا يمنح الأطفال أموالا حتى يبلغوا سن الخامسة عشرة، ووقتها تبدأ الأكاديمية في منحهم مصروف جيب ونفقات انتقال رمزية، ويستمر ذلك حتى يثبت اللاعب نفسه وينضم إلى الفريق الأول، ويمنح عقدا بعد بلوغه السن القانونية للاحتراف (18 عاما).
حسب الإحصائيات يصل إلى الفريق الأول أقل من 1 في المئة من لاعبي لاماسيا، بينما يضطر الباقون إلى الخروج من الأكاديمية ومواجهة مصيرهم بعيدا عنها، لكنهم لا يفعلون ذلك بمفردهم، إنما يتلقون دعما متنوعا من خبرائها، بداية من ضمان حصولهم جميعا على شهادات دراسية تساعد من يريدون الابتعاد عن الكرة في إيجاد عمل مناسب. ونجحت الأكاديمية في توقيع اتفاقيات تعاون مع أندية داخل وخارج إسبانيا، بهدف تسهيل انضمام لاعبي لاماسيا غير المرغوب فيهم في برشلونة، كما توفر الأكاديمية مرشدين تربويين لمساعدة الأطفال على تقبّل الخروج من “حلم برشلونة”.