عبدالمجيد سباطة لـ"العرب": على الكاتب نزع صفة "القداسة" عما يكتبه

الخبرة مهما طالت لا تذيب الجليد بين الكاتب والتأليف الإبداعي.
الأربعاء 2025/05/28
الكتابة متعة أهرب بها من الواقع وأفهمه

الكتابة عملية لا تتحقق إلا بوجود قارئ، وهذا ما يضعنا مباشرة أمام علاقة متقلبة بين الكاتب وقارئه، وهذا الأخير ليس واحدا ولا محددا، وبالتالي يضع الكاتب أمام رهانات صعبة، يحاول فيها تحقيق أكبر قدر من التواصل مع قرائه فيما يكتب. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الروائي والكاتب المغربي عبدالمجيد سباطة حول الكتابة والقراءة.

القراءة هي فيزياء الكتابة الإبداعية. لا يظفر الكاتب الروائي باكتشاف الموجة التي توافق رؤيته ولا تلبي أفق انتظاره دون الارتحال نحو الأعمال الإبداعية التي استلهمها سحرة السرد من تجاربهم الشخصية ومشاهداتهم الحياتية، هذا إضافة إلى شغفهم الذي يكون قواما للنصوص النوعية.

بموازاة مشروعه الأدبي واهتمامه بتحديد خطه في الكتابة لا ينقطع الروائي المغربي عبدالمجيد سباطة عن قراءة الإصدارات الإبداعية، بل هو من القلائل الذين يقرأون لمجايليهم من الكتاب، راصدا روافد جديدة في الفضاء الإبداعي الذي يتسع باستمرار حول منحى الكتابة وبرنامجه في ترتيب الأفكار التي تتوارد على صندوق الرأس، وهو ما نتعرف عليه في حوارنا هذا مع صاحب “متاهة الأستاذ ف.ن”.

جسر للقراء

يرى الكاتب الأميركي ستيفن كينغ أن الروايات الجيدة تبدأ بالقصة ثم تتقدم إلى الموضوع. تسأل “العرب” عبدالمجيد سباطة كيف تكون البدايات في برنامج كتاباته، فيجيبنا “في معظم الأحيان، تبدأ مشاريع أعمالي بفكرة، لكنني لا أسمح لها بالسيطرة علي إلى درجة المخاطرة بالشروع في كتابة عمل روائي دون أي تحضير مسبق، استسلاما فقط لسطوة هذه الفكرة.”

ويضيف “بالعكس، أدرك تماما أن حماس البدايات سرعان ما يخبو، ويتراجع ذلك الفوران أمام ما يخفيه البريق الأول من تعقيدات. أسمي هذه المرحلة ترويض وحش الرغبة المتعجلة في الكتابة، حيث أشتغل بداية على البحث المعمق حول كل ما يحيط بالفكرة (المصادر والمراجع)، مانحا إياها الوقت الكافي للاختمار، وبالتالي النمو في ‘تربة صالحة’، تجعل مهمة الكتابة أكثر سهولة، أو بالأحرى أقل صعوبة، في المرحلة الموالية.”

إرضاء كل القراء مستحيل، لكن الكاتب يسعى لبناء جسر ثقة بإمكان أي قارئ أن يجتازه أو يختار عدم عبوره
◙ إرضاء كل القراء مستحيل، لكن الكاتب يسعى لبناء جسر ثقة بإمكان أي قارئ أن يجتازه أو يختار عدم عبوره

نسأل سباطة هل يوافق سكوت فيتزجيرالد في رأيه بأن القصص الجيدة تكتب نفسها تلقائيا، أما القصص الرديئة فعليك أن تعمل جاهدا لكتابتها؟ فيجيبنا “أرى هذا الموضوع من زاوية مختلفة، تناسب ثنائية ‘الشاعر’ و’المهندس’ في وصف تجارب إبداعية عالمية، ما يجسد بعبارة أخرى، الفرق بين التلقائية والبناء، بين من يبدأ بالكتابة دون أن يدري هو نفسه إلى أين ستقوده الأحداث (وتتباين التجارب هنا بين التفوق والإخفاق)، ومن يعتمد تخطيطا مسبقا يعرف من خلاله مسار الخروج (وتختلف التجارب هنا أيضا بين النجاح والفشل).”

ويتابع “أميل شخصيا إلى الخيار الثاني، باعتماد البحث والتخطيط والبناء، وهي مرحلة قد تستغرق وقتا أطول بكثير من الكتابة، التي تكون ‘أسهل’ نسبيا، اعتمادا على الجهد المبذول في المرحلة الأولى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التخطيط لا يظل غاية بحد ذاته، ولا يمثل هوسا قد يقيد الأحداث أو يكبل الشخصيات، إن اختارت لنفسها مصيرا مختلفا، وهو ما واجهته صراحة أكثر من مرة.”

وتسأل “العرب” سباطة كيف يمكن للنص الروائي أن يكسب ثقة القارئ ويقتنع الأخير بأن ما يتابعه جدير بأن يستمر معه؟ ليقول “القارئ في نظري قراء، وبالتالي فإن تجارب القراءة، ومعها عوامل كسب الثقة، تختلف من قارئ إلى آخر، من تستثيره لغة العمل وتلامس شغاف تذوقه، فيواصل القراءة، لا لشيء سوى للاستمتاع بها، ومن يحركه تسلسل الأحداث وتشويقها، وصولا إلى النهاية، في ما يمكن اعتباره روايات ‘أفقية’، ومن يكون تفاعله الأقوى مع الشخصيات، في تحركها وطبيعة نظرتها للعالم، في الروايات ‘العمودية’.”

ويضيف “بالنسبة إلي، أعمل دوما من زاوية اعتبار ‘القارئ الافتراضي’ شخصا حاد الذكاء، رفيع الذائقة، ما يعني بالتالي ضرورة احترامه والتعامل معه بأقصى درجات الجدية، وعدم الاستهانة بقدراته الذهنية ونظرته الجمالية للأدب والعالم، ومتى أسقطت هذه القاعدة من حساباتي، وتعاملت مع القارئ بلا مبالاة أو استخفاف بقدراته، فعندئذ ستكون نهايتي. أعلم أن إرضاء كل القراء مستحيل، لكنني أسعى لبناء ‘جسر ثقة’، بإمكان أي قارئ أن يجتازه، أو يختار عدم عبوره، مع ضمانة بأن الجسر لن ‘ينهار’ في منتصف الطريق.”

أما عن الطريقة التي يمكن للروائي أن يفرض بها أسلوبه على القارئ بحيث يستهوي الأخير ما يوافق مزاج الأول في الكتابة والتشكيل، فيقول الكاتب المغربي “لا أحب الحديث عن ‘فرض’ أسلوب، وإنما عما يمكن اعتباره ‘بناء’ ثقة بين المؤلف والمتلقي. أرغب دوما بتحفيز القارئ على شحذ كل قدراته الذهنية للتفاعل مع العمل، عوض منحه جرعة كسل لا فائدة منها، احتراما لذكائه كما أسلفت في جواب سابق.”

ويتابع “لذلك، ورغم مغامرتي ‘الأنانية’ بكسر الشكل الخطي التقليدي في روايتي الأخيرة، إلا أن ‘اطمئناني’ لهذه الثقة ساعدني على المضي قدما. متى استطاع الكاتب صنع خلطة أو ‘توليفة’ خاصة به، يعرفه الجمهور بها، وإن غير ‘جلده’ مع توالي أعماله، شكلا وأسلوبا وموضوعا، فإن القراء سيواصلون سعيهم لاكتشاف جديده، وعن ‘طيب خاطر’.”

المتعة والمغامرة

نتطرق إلى تجربة عبدالمجيد سباطة في كتابة الرواية، متسائلين هل ذاب الجليد بينه وبين التأليف الإبداعي، يعلق الكاتب “أرى مشروع كل عمل جديد من زاويتي الظروف والجهد، أما الخبرة، فحتى وإن تطورت بمرور الأعوام، إلا أنني لا أجد فيها عاملا حاسما في ‘إذابة الجليد’ كما وصفته.”

ويواصل “كل عمل جديد هو ‘مغامرة’ أخرى، تعيد تعريف علاقتي بالكتابة وبنظرتي الشمولية لجنس الرواية. على هذا الأساس، لطالما ارتبط كل عمل في ذاكرتي بطبيعة الظروف الشخصية التي كتبتها فيه، وأيضا بحجم الجهد المبذول، بين البحث والتوثيق والكتابة وإعادة الكتابة والتحرير والتدقيق، قبل خروج العمل إلى النور. الكتابة هي المتعة الوحيدة التي تعينني على الهروب من الواقع، وفهمه في الآن ذاته، لكنني أدفع بهذه المتعة أحيانا إلى حدودها القصوى، فأجدني مضطرا في كل مرة بعد الفراغ من كتابة رواية ما إلى زيارة الطبيب للتأكد من أن جسدي مازال قادرا على التحمل.”

◙ كل عمل جديد في نظر الكاتب هو مغامرة أخرى، تعيد تعريف علاقته بالكتابة وبنظرته الشمولية لجنس الرواية

برأي إرنست همنغواي أن الأمر الأكثر تعقيدا في كتابة الرواية الانتهاء منها. تسأل “العرب” سباطة هل لاحظ بأنه من الممكن المناورة مع غواية الاسترسال؟ ليجيبنا “هذا يعود بنا إلى جوابي على السؤال الثاني، حول التلقائية والتخطيط. في معظم الأحيان، تكون نهاية العمل، أو بعض ملامحها على الأقل، واضحة أمام ناظري قبل وصولي إلى الصفحة الأخيرة، لذلك أجدني بعيدا كل البعد عن فكرة إنهاء العمل فقط لأنني تعبت.”

ويضيف “من جهة أخرى، عودت نفسي بمرور السنوات على التصالح مع فكرة الحذف، وإن تناقض هذا مع ما يبدو من ميلي إلى كتابة روايات كبيرة الحجم. لمست هذا ‘التصالح’ خصوصا في روايتي الأخيرة ‘في متاهات الأستاذ ف.ن’، عندما قررت شطب فصول كاملة، أو إعادة كتابتها بأسلوب مختلف، أو تعويضها بأخرى، وقد أدركت أن الحذف سيجعل الرواية منفتحة على مساحات تأويل أرحب، عوض حصرها في تفسير أو تأويل واحد، كانت ستفرضه فصول أو صفحات استبعدتها من المسودة النهائية. في رأيي، متى ما نزع الكاتب صفة ‘القداسة’ عما يكتبه، كانت قدرته على تجويد أعماله وتحسينها أكبر.”

أما عن تعقيبه على رأي هاروكي موراكامي الذي يعتقد بأن ما يحدد الأسلوب والشكل في طبخة الكتابة هو الدافع، يقول عبدالمجيد سباطة لـ”العرب”، “تطورت علاقتي بأسلوب العمل وشكله بمرور السنوات وتوالي الأعمال. أعتقد أنني صرت أكثر وعيا بدورهما وترابطهما، خاصة في روايتي الأخيرة ‘في متاهات الأستاذ ف.ن’، إذ كنت منذ البداية أمام تحدي سطوة الشكل ودوره في خدمة الأسلوب والمضمون.”

ويواصل “هل أكتب رواية خطية تحترم التسلسل الزمني والاستقرار المكاني، وربما ترضي عموم القراء (نسبيا)، لكنها تشوه جوهر الفكرة وبعدها الرسالة الجوهرية للعمل، أم ‘أغامر’ بكل شيء، وأكسر البنية التقليدية ‘المريحة’، وأضع القارئ بالتالي أمام معضلة التركيز والمشاركة المضنية في تشكيل مساره الخاص داخل العمل، بما يلائم ما ارتأيته؟ حسمت أمري بالخوض في الخيار الثاني طبعا، وإن كان في ذلك بعض الأنانية، لكن ‘الدافع’ كان أقوى."

12