محمد الحباشة لـ"العرب": الكتابة شكل من أشكال الإقامة في العالم

يدرك الكتّاب أن التحرك في هذا العالم المطبوع بالتوتر الناشئ من المحو والاستئناف يتطلب تحملا لمواجهة المسافات التي عليك أن تسابق نفسك للانتهاء منها. وإنّ أيّ تراخ على هذا الصعيد يكلفك الزمن الذي يصفه أندريه بريتون بأنه ذهبنا الوحيد. حول رهانات الكتابة كان لـ"العرب" هذا الحوار مع الروائي التونسي محمد الحباشة.
يرى ستيفن كينغ أن الروايات الجيدة تبدأ بالقصة ثم تتقدم إلى الموضوع، حول البدايات في برنامج كتاباته، يقول الروائي والقاص محمد الحباشة “عادة ما أستهل كتابة الرواية أو القصة، حين تكون الحكاية جاهزة في ذهني، أو على الأقل الجزء الأكبر منها. أي أني أعرف مسبقا أين سأمضي. أعرف شخصياتي بأسمائها، والعلاقات الجامعة بينها والأحداث التي سيعيشونها.”
ويضيف “لا تعنيني الحكاية أيضا ما لم تكن حبكتها مشوقة، قادرة على ألا تشعرني بالملل أثناء كتابتها، وهكذا أضمن، وإن نسبيا، ألا يمل القارئ أيضا. تعجبني مقولة توني موريسون حين تؤكد أننا نكتب الروايات التي نرغب بقراءتها. لذلك أوافق ستيفن كينغ في ما ذهب إليه. الموضوع لاحق للحكاية، وليس العكس، فالحكاية هي ما تفرض تيمتها العامة التي تتفرع أثناء التسريد إلى تيمات أخرى.”
فعل الكتابة
يقر الحباشة في حديثه لـ”العرب” بأنه لا يحب أبدا الروايات التي تحمل، مسبقا، موضوعا جاهزا لتعالجه، كأن أصحابها يحملون راية كتب عليها شعار. ويعترف بأنه لا يصدق كثيرا الروائيين الذين يزعمون بأنهم يكتبون بأطروحات مسبقة. مشددا "أنت 'لا شيء' كسارد إذا لم تمتلك حكاية جيدة قبل أي شيء آخر."
نسأله إن كان يوافق سكوت فيتزجيرالد في رأيه بأن القصص الجيدة تكتب نفسها تلقائيا، أما القصص الرديئة فعليك أن تعمل جاهدا لكتابتها؟ ليجيبنا “لا وجود لقصة تكتب نفسها تلقائيا. وأعتقد بأن رأي سكوت فيتزجيرالد مرده أنه يكتب من صميم تجربته الحياتية، أي أنه ليس بحاجة إلى التمكن من مادة متخيلة للكتابة بما أنه يستقيها جاهزة من حياته، سواء استعان بذاكرته أو مارس ما يسمى الكتابة المباشرة، القريبة من أدب الكتابة عن الذات. فيما أرى أن الكتابة السردية، مهما كانت طبيعتها، بحاجة إلى جهد ومراس ومكابدة وعمل متواصل من الكتابة وإعادة الكتابة والمراجعة، كي يصل الكاتب إلى نص مرضي نسبيا."
◙ الكتابة السردية، مهما كانت طبيعتها، بحاجة إلى جهد ومكابدة وعمل متواصل لا وجود لقصة تكتب نفسها تلقائيا
ويتساءل "لو كانت القصص تكتب دفعة واحدة، فما حاجتنا إذن إلى مهنة المحرر والعين الخارجية التي من شأنها مساعدة الكاتب في العمل على تماسك نصه في بنيته وحبكته ولغته ودرجة إقناعه؟"
نسأله عن رأيه في مقولة كافكا بأن الكاتب عندما يتوقف عن الكتابة يكون أشبه بالوحش، ليقول “أوافقه دون شك. في رأيي ما من كاتب أصيل يستطيع العيش دون كتابة. مع احترامي للكتاب الذين يتوقفون في مرحلة ما لإدراكهم أنه لم يعد هناك ما يقولونه (فيليب روث مثالا)، أو أنهم قالوا كل شيء في عمل واحد وجدوه كافيا (آرثر غولدن مثالا)، أو أصيبوا، لسبب أو لآخر، بمتلازمة الورقة البيضاء، أي العجز المرضي عن الكتابة.”
ويضيف “يقول الروائي البيروفي (الذي توفي منذ أيام) ماريو فارغاس يوسا في سياق مماثل أنه إذا توقف عن الكتابة أو حرم منها، لسبب أو لآخر، فإنه على الأرجح سينتحر. وأنا أصدقه. الكتابة بالنسبة إليّ حاجة جمالية بدرجة أولى، دونها يصاب عقلي بالصدأ وروحي بالعطب، وهي نشاط فعال يدعمه لدي نشاط التلقي، المتمثل في إدمان القراءة والاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة السينما وتذوق الجيد من كل فن. والكتابة حاجة حياتية بدرجة ثانية، بما أنها ممارسة واعية للحرية الفردية، وهذا مهم لي كإنسان كي أستمر وأجعل الحياة محتملة على نحو ما. الكتابة شكل من أشكال الإقامة في العالم.”
عن تجربته في كتابة الرواية، وهل ذاب الجليد بينه وبين التأليف الإبداعي بعد إصدار روايته الثانية، يقول الحباشة لـ”العرب”: “الجليد لا يذوب أبدا، ولا أريده أن يذوب. إن تلك الرعشة التي أشعر بها عند بداية كل عمل شبيهة بالرعشة الجنسية، مليئة باللذة والتهيب والألم كذلك، أي أنها شبيهة بمخاض الولادة ونشأة الحياة. أبدأ كل كتاب جديد كأني لم أكتب في حياتي مطلقا. وأتعامل مع كل كتاب على حدة، وأجدني أتعلم أشياء جديدة مختلفة عن السابقة، تقنيا ومعرفيا. ما توفره لك حقا أعمالك السابقة، هو ذاك المران على المكابدة واكتساب النفس الطويل الذي تقتضيه الكتابة الروائية والقصصية على حد سواء.”
في مطبخ الروائيين
برأي “أرنست همنغواي” أن الأمر الأكثر تعقيدا في كتابة الرواية الانتهاء منها. يعلق الكاتب التونسي حول هذا الرأي قائلا “في الحقيقة لا أحب النهايات المغلقة. وأستغرب كيف يصرح همنغواي بأنه أعاد كتابة نهاية ‘الشيخ والبحر‘ أكثر من ثلاثمائة مرة. هل كان الأمر يستحق؟ أم ترى قوله هو إحدى الأساطير التي يود بعض الكتاب إحاطة أنفسهم بها أحيانا (وهذا حقهم)؟ الرواية أو القصة، هي فاصل بين قوسين من حياة الإنسان وليست حياته كلها حتى وإن ادعت ذلك. لا بد أن هناك شيئا ما ينفلت من بين أصابع الكاتب. إنها لحظة وتمر مهما بلغ طولها، ولا يمكنها أن تنتهي إلا بالموت، ويمكنها أيضا أن تستمر بعده، بما أننا نخوض غمار عمل تخييلي لا يستثنى منه شيء.”
ويتابع “تبدأ رواية ‘اسمي أحمر‘ لأورهان باموق بالموت. وتدور رواية ‘بيدرو بارامو‘ لخوان رولفو في عالم ما بعد الموت الواقع على حافة عالم الأحياء، وغيرها من الروايات الكثير. لذلك فإن نهايات روايتي ‘خلدون ميشال‘ و‘رجل شارع روما‘ والقصص التي كتبتها في مجموعة ‘مستودع الخنازير‘، والأخرى التي ستصدر قريبا في مجموعة جديدة مع معرض تونس الدولي للكتاب 2025، كلها تنزلت بنهايات مفتوحة.”
ويؤكد الحباشة أن هناك فتنة في ذلك، وليس للأمر علاقة بـ”ترك القارئ يتخيل النهاية التي يريدها” كما يبرر ذلك بعض الروائيين، ولكن هناك أمر ما بشري شديد الهشاشة في ذلك، ربما يرتبط أساسا بعلاقة الكاتب بشخصياته وحكايته.
ويواصل “من أغرب الأشياء التي قرأتها، وأنا أتلصص على مطبخ الروائيين الداخلي، هو أن الروائي الأميركي الكبير جون آرفنغ يبدأ الرواية حين تكون الجملة الأخيرة جاهزة لديه، وتأتي الكتابة لاحقا بشكل عكسي، أي رحلة من النهاية نحو البداية. أمر عجيب أليس كذلك؟ صرت كلما أمسك رواية لآرفنغ أقرأ جملتها الأخيرة (يضحك). لكني لا أكتب هكذا مطلقا.”
في تعقيبه على رأي هاروكي موراكامي الذي يعتقد بأن ما يحدد الأسلوب والشكل في طبخة الكتابة هو الدافع؟ يقول محمد الحباشة “أعتقد بأن الدافع أوسع وأكبر بكثير. بمعنى أنه المحفز الرئيس لكل أعمال الكاتب ومدونته، وهو في علاقة مباشرة مع الوعي بسؤال الكتابة ‘لماذا أكتب؟‘ وربما كان هذا الدافع حياتيا مثل الحاجة إلى الماء والهواء. وهو ما ناقشناه في السؤال الأول من حوارنا.”
ويضيف “الدافع عام فيما الأسلوب والشكل خاص بكل كتاب دون آخر، وما يحدده هي طبيعة الحكاية نفسها، إنشائيتها، فضاؤها، وظروفها. حكاية في الريف ليست مطلقا حكاية في المدينة. حكاية في تونس ليستْ حكاية في اليابان، وثقافة ‘وليد بركة‘ (شخصية من رواية ‘رجل شارع روما‘) ليست مطلقا ثقافة ‘أومامه‘ في رواية ‘19Q4‘ لموراكامي. صوت الشخصيات أيضا يتحكم في الأسلوب، فالأستاذ الجامعي لا يتحدث مثل منحرف في الشارع. والفضاء يحدد الشكل، فرواية تحدث في فضاء مفتوح، لا يمكن أن تمتلك شكل رواية تحدث في سجن أو مصح عقلي.”