"أسرار نخفيها".. دراما دنماركية تنكأ جراحا عنصرية

كيف تصطدم أحلام المهاجرين بواقع الغرب المرير وبشعارات الديمقراطية المزيفة؟ ذلك ما يكشفه لنا مسلسل "أسرار نخفيها" وهو دراما دنماركية تسرد نماذج عن معاناة المهاجرين العاملين لدى الأثرياء الدنماركيين ومستويات العنصرية التي يمكن أن تمارس ضدهم، مقدما صورة قريبة من الواقع تؤكد أن دولا كثيرة لا تتعدى الديمقراطية فيها مرحلة الشعارات الواهية.
تحتل القصص التي تتعاطى مع قضايا العنصرية والتمييز العرقي والطبقي، موقعا غاية في الأهمية بين الأعمال السينمائية والدرامية العالمية، وقد ساهمت في تغيير نظرة بعض المجتمعات، وإلغاء قوانين الفصل العنصري البغيضة إلى الأبد.
من أبرز هذه القصص أفلام: “خمن من القادم على العشاء” و”المتمردين” و”على رصيف الميناء” و”هانا-ك” تألقت فيها نخبة من أهم نجوم وكتاب ومخرجي السينما والدراما في العالم، وفي القلب منهم مارلون براندو وسيدني بواتييه وسبنسر تراسي ورود شتايجر، والمخرجين ستانلي كرامر وإيليا كازان وكوستا جافراس.
الدراما الدنماركية نجحت عبر "أسرار نخفيها" في وضع نفسها بقوة ضمن قائمة السرديات العالمية الأكثر تصديا للعنصرية
وجددت الدراما الدنماركية في مسلسل “أسرار نخفيها” Secrets we keep الذي أطلقته منصة نتفليكس مؤخرا، طرح هذه النوعية من القضايا التي يعاني منها المجتمع الدنماركي بشكل خاص والمجتمعات الغربية بشكل عام، وفتحت عبر طرحها الجديد ملف مشكلات العنصرية والتمييز العرقي ومآسي اللجوء السياسي وبعض التشوهات الاجتماعية داخل المجتمع الدنماركي، لتضعنا منذ اللحظات الأولى لمتابعتها أمام معالجة درامية جادة ورصينة لتحطم أحلام الكثير من العمال الأجانب واللاجئين السياسيين على صخرة الواقع المرير والمؤلم الذي يتفجر أمامهم بعد وصولهم للغربة.
حصل المسلسل على تقييم مئة في المئة من موقع تقييم الأعمال الدرامية العالمية Rotten Tomatoes وحصد المركز الثاني في قائمة المسلسلات الأعلى مشاهدة نظرا للمعالجة الدرامية المتميزة والسيناريو المحكم للكاتب والمؤلف الدنماركي إينغبرغ توبسي والرؤية والإبداع الدرامي لصناع العمل بقيادة المخرج بيتر فلاي.
قام العمل بتعرية شريحة من طبقة فاحشي الثراء الدنماركيين المنعزلين مجتمعيا، في ما يشبه “الكانتون” المكون من سلسلة قصور مترامية الأطراف على مشارف غابة قريبة من مدينة نورث زيلاند الدنماركية الهادئة البعيدة عن المدن المزدحمة، كاشفا عنصرية شديدة مع ذوي البشرة الملونة واستغلالهم المقيت للعمالة الأجنبية مسلطا الضوء على مربيات الأطفال الفلبينيات والتعامل المهين معهن كنموذج صارخ لهذه التصرفات البغيضة.
ممارسات عنصرية
شيّد السيناريست إينغبرغ توبسي هندسة العمل على عدة مستويات، تمثل التباينات الشخصية والعرقية والاثنية والاجتماعية، مرتكزا على عدد من الشخصيات المحورية التي تمثل هذه التباينات، وجاءت شخصية سيسيليا وجسدتها الفنانة ماري باتش هانسن كمدخل أساسي لتعريف المشاهد بهذه الفروق، حيث تحيا سيسيليا حياة مترفة هى وزوجها المحامي المرموق مايك ويجسده الفنان سيمون سيرز وهو شخص عصامي تعود أصوله إلى أسرة فقيرة أحرز ثروة كبيرة نتيجة لتألقه في عالم المحاماة، وكونه المستشار القانوني لكبار المليارديرات ومنهم صديقه راسموسن الذي جسد دوره الممثل لارس رانس وهو صاحب شركة عالمية لصناعة التوربينات ومتزوج من كاترينا -صديقة سيسيليا- ذات الشخصية المتعجرفة شديدة العنصرية.
تعمد سياق المسلسل تذكير كاترينا زوجة راسموسن، وهي رأس الحربة الدرامية التي تجسد اليمين في أكثر صوره تطرفا، للمحامي مايك بأصوله الفقيرة رغم الثراء الحالي كلما نشب أي خلاف ببن الأسرتين -مهما كان تافها- كإشارة رمزية لإظهار تشوهات اجتماعية في المجتمع المترف المكون من أثرياء لا حدود لثرواتهم وينتمي معظمهم إلى اليمين المتطرف.
طبقات دنيا
على مستوى إنساني آخر، يعرفنا المسلسل على طبقة العمال الآسيويين والأفارقة الذين يلتحقون بالأعمال الدنيا في مجتمع قصور مدينة نورث زيلاند مكثفا الضوء على طبقة مربيات الأطفال الفلبينيات، ومنها مربيتا الأطفال أنجيل التي تعمل بقصر مايك وسيسليا وبيري التي تعمل بالقصر العملاق لراسموسن وكاترينا.
تختفي مربية الأطفال الفلبينية بيري فجأة من قصر راسموسن ويعطي جوالها رسالة صوتية بغلقه وتطلق كاترينا سلسلة من السباب البذيء والعنصري تجاه بيري والمهاجرين واللاجئين، وعند إبلاغها الشرطة متهمة بيري بالهروب تكلف المحققة إيشا ذات الأصول الأفريقية بكشف لغز اختفاء بيري وعند وصولها قصر راسموسن حيث تقطن بيري تعاملها كاترينا بوقاحة شديدة بمجرد أن تلمح بشرتها الملونة.
وتقوم المحققة بوقفها عند حدها وتبدأ في تفتيش القصر وغرفة بيري الصغيرة الواقعة في القبو المظلم، لتكتشف وجود جواز سفر بيري وبعض النقود التي ادخرتها ما ينفي عنها اتهام كاترينا لها بالهرب ويضع قضية الاختفاء على مرمى شبهات وجود جريمة.
وتشك سيسيليا، وهي الوجه المعاكس لصديقتها كاترينا، حيث تحرص على التعامل بلطف مع مربية أطفالها أنجيل، في تعرض بيري المختفية لجريمة وتحاول جاهدة التواصل مع الجالية الفلبينية في المدينة وعبر هذا التواصل ينقلنا صناع المسلسل إلى عوالم اللاجئين والأجانب من الأفارقة والأسيويين والعرب القاطنين في منازل غير آدمية على أطراف مدينة نورث زيلاند ليتعرف المشاهدون عن قرب على مدى معاناتهم وشظف حياتهم واضطرارهم للعيش على الفتات من أجل إرسال النقود القليلة التي يحصلون عليها من أعمالهم الدنيا إلى أسرهم شديدة الفقر في بلدانهم الأم لمساعدتهم على تحمل أعباء الحياة.
تكتشف الشرطة جثة بيري غارقة في إحدى البحيرات، ويتوصل تشريح الطب الشرعي للجثة إلى حقيقة خطيرة تفيد بحمل بيري لتدور الشبهات حول تعرضها للاغتصاب من رب عملها راسموسن الذي تجبره الشرطة على إجراء اختبار للحمض النووي لتظهر النتيجة بوجود تطابق يصل 20 في المئة مع الحمض النووي للجنين، وبتتبع الأمر يتم الكشف عن المغتصب الحقيقي وهو ابن راسموسن المراهق.
تستر على جريمة
يختتم المسلسل أحداثه بممارسة راسموسن وزوجته كاترينا ضغوطا شديدة لتحويل دفة اتهام المراهق بواقعة الاغتصاب إلى إغواء بيري له واستغلالها لسنه الصغير ويقوما بإرسال الابن المراهق إلى مدرسة داخلية بعيدة وإغلاق ملف القضية الذي يؤشر بقوة إلى وجود جريمة قتل، لكن الدوائر العنصرية في الشرطة التي تنتمي إلى اليمين المتطرف تقف مع راسموسن وتغلق القضية بوصفها حادثة انتحار لبيري عقب علمها بحملها غير الشرعي.
وعبر طرحها المتميز الجاد نجحت الدراما الدنماركية في مسلسل “أسرار نخفيها” في وضع نفسها بقوة ضمن قائمة السرديات الفنية العالمية الأكثر تصديا للعنصرية، وجدد العمل رصد كل مظاهر القهر التي يتعرض لها المهاجرون واللاجئون، ويضع بنهايته التراجيدية المشاهدين أمام حقيقة الظلم الواقع على هؤلاء، وتآمر كل العنصريين من اليمين المتطرف عليهم دون أي اعتبار أخلاقي أو إنساني.
وأطلق العمل إشاراته المهمة للضمير الإنساني بضرورة التيقظ دوما لتلك الأسرار المؤلمة التي تخفيها الصورة الديمقراطية البراقة لبعض الدول الغربية المتقدمة، مدعية الديمقراطية، والتي انكسرت على صخور واقعها المؤلم أحلام آلاف المهاجرين.