سوريا تقطف ثمار عودتها إلى العمق العربي

منذ ولايته الأولى، عرف الأمير محمد بن سلمان أفضل طريقة للتعامل مع الرئيس دونالد ترامب، الذي رسم صورة الولايات المتحدة في ذهن قادة دول العالم كسوق ضخمة يمكن أن تبتاع منها ما تريد؛ الأسلحة المتطوّرة، الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا النووية، الشراكة الأمنية والاقتصادية والتجارية والتحالفات. كل شيء وأي شيء يمكن ابتياعه من السوق الأميركية الكبيرة، فالأمن والتكنولوجيا والشَّراكات بمختلف مسمياتها هي بضاعة أيضا بنظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعليهِ تسويقها وبيعها، لجلب المال تجسيدا لشعاره “أميركا أوّلا”.
تظهر الشخصية الحقيقية للرئيس دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الثانية بشكل واضح، يعود هذا الظهور المتقدم لإيمانه -الذي ترسّخ بشكل أكبر- بأن المال هو أولوية الأولويات، وتثبيته لمبدأ الاقتصاد أولا ثمّ السياسة ثانيا، أي السياسة الاقتصادية بمعنى آخر، وتأتي القيم الأميركية المعروفة في درجة أقل. تظهر شخصية الرئيس ترامب بشكل أجلى وأوضح في هذه الأيام، شخصية رجل الأعمال الذكي والشّاطر أو شهبندر التجار كما نقول بالعربية، الذي يخلق الفرص لتقوية الاقتصاد الأميركي، بغض النظر عما يقال أو يقوله البعض عن عدم امتلاكه لرؤية سياسية واضحة بخصوص حرب غزّة، وتجنبه لوضع حد للمأساة المتفاقمة فيها.
يتطلع ترامب إلى قطف ثمرة مفاوضاته مع إيران وهو يبدي اهتماما كبيرا بنجاحها، وبدورها ظهرت الكثير من التصريحات المغرية من قبل المسؤولين الإيرانيين التي تدغدغ مشاعر ترامب التجارية، فالأخيرة عرضت أن تجمّد النووي الإيراني وتريليون مليار دولار مقابل رفع العقوبات عنها، وقد تصل الاستثمارات إلى أكثر من عشرة تريليونات دولار، أي أضعاف ما وقّعته الدول الخليجية الثلاث، وعرضت إيران كذلك التطبيع الاقتصادي الكامل لإنهاء حالة العداء مع الشيطان الأكبر.
تظهر الشخصية الحقيقية للرئيس دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الثانية بشكل واضح، يعود هذا الظهور المتقدم لإيمانه -الذي ترسّخ بشكل أكبر- بأن المال هو أولوية الأولويات، وتثبيته لمبدأ الاقتصاد أولا ثمّ السياسة ثانيا
احتاجت إيران إلى تسع سنوات حتى تفهم عقلية الرئيس ترامب، لكن الرئيس أحمد الشرع أظهر ذكاء واضحا وهو له شهور تعد على أصابع اليد الواحدة على كرسي الحكم في سوريا، عرض الرئيس السوري أن تعاد تجربة مارشال في سوريا بعد تطبيقها الناجح قبل ثمانين عاما في أوروبا الغربية، وعرض أيضا بناء برج ترامب في دمشق، واستثمارات لشركات أميركية في النفط والثروات الباطنية الأخرى في سوريا، فسياسة الاقتصاد هي ما تهمّ الرئيس ترامب وفريقه التجاري الكبير الذي يرافقه.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالرئيس الشرع أيضا يعرف من أين تؤكل الكتف الأميركية، حيث أبدى استعدادا واضحا لتنفيذ الطلبات الأميركية المتعلقة بسجون داعش والمقاتلين الأجانب بالإضافة إلى الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تدور في الفلك الإيراني والحفاظ على السلم الأهلي.
تفوّق الرئيس الشرع على نفسه أيضا، حين قدم مصلحة شعبه على كل شيء، وسعى بوضوح جاد لنيل رضا الأميركيين وهو الذي قاتلهم بشراسة في شبابه، وسجن في معتقلاتهم في العراق أيضا، تجاوز الرئيس الشرع مصالحه الفصائلية الضيقة، وفتح صفحة جديدة ليس فقط مع القطب الأميركي بل مع العالم أجمع باستثناء إيران وأذنابها في المنطقة العربية.
ولا آتي بجديد عندما أقول إن سوريا بدأت تقطف ثمار عودتها إلى عمقها العربي، فالرئيس أحمد الشرع استهل زياراته الخارجية بالمملكة العربية السعودية، فالبوصلة السورية تشير نحو الرياض وأبوظبي والدوحة، تلك العواصم العربية الثلاث التي عملت بجد منقطع النظير لتحرر سوريا من أغلال العقوبات الاقتصادية التي استجلبها النظام البائد، كما استجلب الدمار والتدخل الخارجي وقطعان المتطرفين إلى سوريا.
وبالعودة إلى الاتفاقيات الاقتصادية فلها تأثير مهم لتعميقها العلاقات العربية الخليجية مع الولايات المتحدة، وهذا ما ينعكس إيجابا ليس فقط على الدول الخليجية الثلاث بل على باقي الدول العربية كما في الحالة السورية، مع العلم بوجود محاولات جادة من قبل الدول العربية آنفة الذكر لتحقيق اختراق في حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني رغم التعنت والتهرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وفي الختام، لا بد من تسليط الضوء على الفجوة الواضحة بين الاتفاقات الضخمة التي يوقّعها الرئيس ترامب وما يتم تنفيذه على أرض الواقع، فقد أظهر تحليل اقتصادي لصحيفة “نيويورك تايمز” تحدثت فيه عن 95 مليار دولار فقط نُفذت من أصل 450 مليار دولار مجموع الصفقات التي وقعها الرئيس دونالد ترامب مع المملكة العربية السعودية في ولايته الرئاسية الأولى، وعليهِ ليس كل ما تمّ الاتفاق عليه سينفّذ.