رسائل الدكتور هيثم

لا أدعي أنني عرفت الدكتور هيثم الزبيدي كما عرفه أصدقاؤه، أمثال الأستاذ محمد الهوني، المعلم علي قاسم، أو الأستاذ كرم نعمة، لكننا، نحن تلاميذه في مدرسة “العرب”، كوّنّا معه رابطة قوية لا تفسرها الكلمات بقدر ما فسرتها الطموحات والأحلام.
كل أملنا، دكتور هيثم، أنك في مكان أفضل، كما رأيتك في حلمي، ضاحكًا مستبشرًا، وأنا، كما كنت دائمًا، وسأبقى، أصدق أحلامي.
كان يدرك قرب رحيله، وقال قبل وفاته “لست ممن يخاف قضاء الله وقدره.” وأنا أنقل كلماته بكل أمانة، وحين أخبرته بأنني أبكي لسماع ذلك، قال إنه حريص على أن تستمر سفينة “العرب” مهما حدث.
كان يفكر في العاملين معه حتى في ذروة ألمه ومرضه، وقال إنه لا يحمل في قلبه إلا محبتنا، وأضاف “أنتم أقرب الناس إليّ خلال عشر سنوات من العمل، وأفضل ما شهدته إنسانيًا في حياتي.”
عرفناه رجلًا شهْمًا ونبيلًا، تجاوزت علاقتنا به، نحن تلاميذه، علاقة رئيس بموظفيه؛ ببساطة، جعل منا عائلة. كان يردد دائمًا “نحن أصدقاء،” ورغم المطبات التي مرت بها “العرب” ظلت صامدة.
كان أبًا وأخًا وخير سند، لا يرد طلبًا، لكنه كان المعلم الذي وثق بنا ومنحنا الفرصة، وجعل من “العرب” بيتنا الآمن. ولأن الإنسان نادرًا ما يلتقي بأشخاص يمكن أن يصفهم بملء فؤاده بأنهم نبلاء، فقد كنت محظوظة بالعمل في “العرب”، حيث تتلمذت على يد أساتذة نبلاء علمونا أبجديات العمل الصحفي وصنعوا منا ما نحن عليه اليوم.
كان الدكتور هيثم الرجل النبيل، بل أنبل النبلاء، جسّد النزاهة والرحمة والتواضع والشجاعة، وشجعنا جميعًا على التصرف بشرف وإنصاف، حتى في أصعب الأوقات. كانت كلمته المفضلة: “ستمر”.
لأننا نحمل أقدارنا دون أن ندرك ما تخبئه لنا الحياة، فإننا نتعلم مرة بعد مرة أن بعض الأشخاص فقط هم من عاشوا الحياة حقًا، وعرفوا معناها، وقيمة العطاء واللطف
كان يحمل أخلاق “الرجل المحترم”، المتجذرة في اللطف، تلك الفضيلة النادرة رغم فاعليتها، خاصة في عالم يميل إلى التوحش والقسوة. امتلك قدرة كبيرة على العطاء، وكان ممتلئًا بكل الصفات الجميلة، يشارك ما لديه ويشجع على التحلي بها.
كان صديقًا صدوقًا للجميع، لطالما عبر عن فخره بفريق العمل الذي صنعه. قال في آخر محادثة إنه يريد أن يرانا جميعًا، ويا ليتنا فعلنا.
لن ننسى اجتماعات العمل التي كانت ممهورة بضحكاتك الرنانة الجميلة في مكتب ألان سافاري في العاصمة تونس، لن ننسى القهوة التي كنت تعدها لنا بنفسك، ولن ننسى أنك كنت صاحب نكتة ذكية تعلمنا درسًا في الحياة.
في حضور الدكتور هيثم، يجب أن يكون ذهنك متقدًا، وإلا فاتك الكثير، وربما لن تستوعب كلماته إلا بعد وقت… هذا إن فهمتها أصلًا! كان الحديث معه فرصة لزيادة المعرفة، وصقل النفس، وتعلم اللطف واللباقة وفنون الرد.
دكتور هيثم، لم ندرك كم نحبك إلا حين رحلت عنا. عزاؤنا أنك في مكان أجمل، بصحبة أفضل، يصلك رثاء محبيك وأصدقائك وكل من عرفك. الجميع شهد أنك الرجل النبيل، بل الأنبل.
ولأننا نحمل أقدارنا دون أن ندرك ما تخبئه لنا الحياة، فإننا نتعلم مرة بعد مرة أن بعض الأشخاص فقط هم من عاشوا الحياة حقًا، وعرفوا معناها، وقيمة العطاء واللطف.
هكذا قدرهم أن يكونوا متميزين ويرحلوا باكرًا، أما بالنسبة إلينا، فقدرنا أن نعرف قيمتهم في حياتهم وبعد رحيلهم.
ستعيش ذكراك بيننا، دكتور هيثم، لكن ذلك لن ينسينا سفينة “العرب”، التي ستتابع إبحارها بفضل تضافر كل الجهود، جهود أناس أحبوها في وقت الشدة والرخاء.
وعن نفسي، سأذكرك كلما نطقت اسم ابني الذي طلبت أن تسميه.
دكتور هيثم، يا خير الأجاويد… شكرًا.