باحثون عرب يعاينون آثار الثقافة في الكويت قبل النفط

الثقافة معيار أساسي لقياس تحضر أي شعب ومعرفة تاريخه، وإيمانا بأدوار الثقافة انتظمت مؤخرا بالكويت ندوة بعنوان "الثقافة في الكويت قبل النفط". ونستعرض، هنا، أهم ما جاء في الأوراق البحثية للندوة، التي نوقشت على مدار ست جلسات بحثية شارك فيها أكاديميون وباحثون عرب.
أقام المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب، هذا الأسبوع، ندوة تواصلت جلساتها البحثية على مدار يومين وحملت عنوان “الثقافة في الكويت قبل النفط”.
انطلقت الندوة بكلمة من الدكتور محمد خالد الجسار، الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ثمّن فيها حضور الثقافة الكويتية خليجيا وعربيا ودوليا، وأشاد بالبحوث وأوراق العمل التي شارك بها مفكرون وأكاديميون وباحثون من الكويت ومصر والسعودية والبحرين. تحدّث الجسار في كلمته عن نشأة الثقافة الكويتية، ودور الروّاد من علماء ومثقفي وفناني الكويت في تشكيل تلك الثقافة التي امتد أثرها من الكويت إلى العالم.
استهدفت الندوة توثيق وتحليل ملامح الهويّة الثقافية الكويتية عبر محطاتها التاريخية المختلفة، وتوزّعت بحوثها على ستّ جلسات، تم خلالها تسليط الضوء من قِبل المشاركين على الجذور الثقافية للكويت في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط “وهي المرحلة التي برز فيها الوعي المجتمعي والإنتاج الثقافي في أوساط الدواوين، والمجلات، والمجتمع المدني، وأسهمت في تكوين ملامح الشخصية الكويتية”.
المشهد الثقافي
قدم أكاديميون وباحثون من الكويت ومصر والسعودية والبحرين قراءات مختلفة. “الجذور الثقافية في الكويت”، كان عنوان أول ورقة بحثية نوقشت بالندوة، وقدمتها الدكتورة نورية الرومي، وتحدثت فيها عن مرتكزات الثقافة الكويتية، من فنون وآداب وتاريخ وطرائق حياة، إضافة إلى الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات. والثقافة الخاصة التأسيسية للمجتمع الكويتي، التي تُمثل الجذور الأصلية التي أنبتت ما تلاها من تطور، وثقافات.
وقالت الرومي “إن الشعوب العريقة بتاريخ وجودها لديها ثقافتان: ثقافة شعبية تتلوها ثقافة علمية، وكل شعب يفتقد الثقافة الأولى (الشعبية) ليست له جذور في التاريخ، فالثقافة الشعبية هي الجذور الأساسية في التكوين الأول والأساسي في تاريخ البشرية.”
وأشارت إلى أن الثقافة الشعبية في الكويت تمثل ذاكرة المكان والزمان والإنسان، متمثلة بتعبيرات الجماعة ورغباتها ومعتقداتها ونظراتها للحياة بأسلوب شفوي، وطريقة تعبيرية بالفنون الشعبية المختلفة من غناء ورقص وشعر شعبي وحِكم وأمثال وحكايات شعبية، إضافة إلى السلوكيات الاجتماعية والطقوس والعقائد والأساطير والأزياء الشعبية، حيث امتزج عند علماء الاجتماع مفهوم الثقافة الشعبية بمفهوم الفولكلور أو علم “الفولكلور”.
وفي بحث حمل عنوان “نظرات في المشهد الثقافي في كويت ما قبل النفط النصف الأول من القرن العشرين”، بدأ الدكتور سليمان الشطي حديثه من معركة الانتماء التي فُرضت على الطلائع العربية في مواجهتها مع “سلطة عثمانية تتهاوى” من جهة وهجمة استعمارية من جهة أخرى، حيث قادت المواجهة في تلك المعركة تيارات ثلاثة: أولها يُركز على ما يهم الإقليم، وثانيها قومي عربي، وثالثها إسلامي.
وتوقف الشطي عند مشهد ثقافة التنمية واللحاق بالعصر عبر مبادرات التنمية الفكرية والاجتماعية والمدارس والجمعيات والمكتبات الأهلية، والنادي الأدبي، وإصدار المجلات، حتى اكتملت الصورة بإنشاء المجلس الاستشاري، والمجلس البلدي، ومجلس المعارف. وأضاء على شخصيتين تقدمان صورة مناسبة للمشهد الثقافي هما: الشيخ عبدالعزيز الرشيد، والشيخ يوسف القناعي. ثم انتقل لاستعراض المشهد الثقافي في الربع الثاني من القرن العشرين.
وفي ورقة بحثية حملت عنوان “دور الديوانية الثقافي”، استعرض الدكتور يعقوب الكندري الدور الثقافي للديوانية باعتبارها مؤسسة اجتماعية فاعلة في المجتمع الكويتي. وأضاف أن الديوانية الكويتية تعد موروثا ثقافيا مميزا وأصيلا خاصا تتميّز به الكويت. وأشار إلى أن الديوانية الكويتية تتفرّد ببعض السمات التي تجعلها فريدة من نوعها من حيث الشكل والمضمون وتتميز بخصائصها الفريدة عن بقية التجمعات الاجتماعية حتى في دول المنطقة والإقليم، وذلك لما تحققه الديوانية من دور ووظيفة في المجتمع المحلي.
وركزت الورقة البحثية للدكتور يعقوب الكندري على الدور الثقافي للديوانية، ونشر الثقافة بأنماطها الخاصة للمجتمع. وتناولت الدور الثقافي الذي كانت تؤديه الديوانية الكويتية التقليدية في مجتمع غابت فيه المؤسسات التعليمية، ودورها في نشر العلم والمعرفة والثقافة، ودورها في التنشئة السياسية، وبناء الفكر السياسي داخل المجتمع.
وقدّم الباحث صالح المسباح بحثا حمل عنوان “إصدارات المجلات والمطبعات والدور الثقافي الشعبي”، توقف فيه مع الصحافة الكويتية، وتناول دورها في خدمة الحركة الثقافية الكويتية والعربية. وقال المسباح إن الصحافة الكويتية تُعد من وسائل الإعلام الرائدة في دولة الكويت، وسباقة بين شقيقاتها في منطقة الخليج كصحافة رائدة حرة.
◙ الصحافة الكويتية لعبت دورا بارزا ومحوريا في خدمة قضايا الأمة العربية والإسلامية، مع التعريف بقطر الكويت البلد الناهض الصغير
وأكد الباحث صالح المسباح أن الصحافة الكويتية لعبت دورا بارزا ومحوريا في خدمة قضايا الأمة العربية والإسلامية، مع التعريف بقطر الكويت البلد الناهض الصغير، في وقت كان أبناؤه يكابدون أمواج البحار للأسفار والبحث عن المحار.
وفي بحث حمل عنوان “ثقافة القرية”، سعى الدكتور أحمد الفرج إلى تصحيح السردية التاريخية السائدة والغافلة عن التأريخ لمجتمعات بشرية مهمة ومؤثرة ومنتجة لكنها مهمشة خارج أسوار مدينة الكويت، وأضاء على بقعة جغرافية مهملة من قبل مؤرّخي الكويت، وغير محكية على نحو مرض للقارئ في تاريخ الكويت الحديث والمعاصر، وذلك بإخضاع قرية الفنطاس تحت مجهر النقد التاريخي والدرس اللغوي أيضا.
وكشف الفرج عن ملامح البيئة القروية في دولة الكويت قبل اكتشاف النفط، وتحديدا في قرية الفنطاس، حيث يعرف بأصل تسمية الفنطاس بهذا الاسم، ثم يركز على أهمية موقع القرية الإستراتيجي، وجغرافيتها، ومزارعها، ورحلات الغوص في بحرها، وأمرائها (قبل النفط)، وأسماء الأسر القاطنة فيها قديما. ودارت ورقة الباحث عامر التميمي حول “ثقافة المدينة”، وقال فيها “إن الثقافة في أي مجتمع إنساني تتأسس بفعل التعليم والتلاقح الفكري والأدبي والفني مع المجتمعات الأخرى.”
وأضاف أن الحياة المدنية بدأت في الكويت منذ أواسط القرن الثامن عشر، وأن الكويت بنت علاقات مع بلدان الجوار مثل العراق وإيران ونجد والإحساء والبحرين، وكذلك مع بلدان أبعد أهمها الهند من خلال العلاقات التجارية. وأشار إلى أن هناك عوامل ساهمت في تطوير البناء الثقافي في الكويت، إذ استلهم الكويتيون خبراتهم من علاقاتهم مع العاملين في بلدان الجوار مثل البصرة وبلاد فارس والبحرين.
ورأى التميمي أن الكثير من المهن والحرف خلقت اهتمامات بالمعرفة وعززت هواية الاطلاع، وعزّزت شغف الاستطلاع وحب الفنون والآداب. ولفت إلى أن الكويتيين كانوا يرنون إلى القراءة وينتظرون وصول المجلات المصرية والعراقية والسورية والتي كانت لا تصل إلى الكويت إلا بعد صدورها في مواطنها بعدة شهور.
العلاقات الثقافية
حملت الورقة البحثية للدكتور خالد عزب عنوان “العلاقات الثقافية العربية”، حيث قال فيها إن الكويت تُعد من الدول العربية التي استطاعت مبكرا بلورة مشروع ثقافي عربي قام على التلاقح والتبادل، وإن ما فشلت فيه القومية العربية سياسيا نجحت فيه الكويت ثقافيا.
وأشار إلى أن هذا أتى عبر ثلاث مراحل: الأولى مرحلة التأسيس التي امتدت من بدايات القرن العشرين مع النمو المتزايد بروح الدولة الوطنية المعاصرة، إلى خمسينات القرن العشرين حين أصبح حضور الكويت عربيا قويا. وهذه المرحلة عنوانها تأسيس مجلة العربي وهي لؤلؤة الثقافة العربية ويمر هذا العام 50 عاما على رحيل أول رئيس لتحريرها وهو الدكتور أحمد ذكي، وفي المرحلة الثالثة من الاستقلال إلى الرسوخ نشهد مشروعا ثقافيا متكاملا مستداما عكس باقي المشاريع العربية عنوانه الأساسي سلسلة عالم المعرفة.
وقدّم الدكتور علي الطراح بحثا بعنوان “الهويّة الكويتية”، حاول من خلاله أن يحلّل التكوين الثقافي للمجتمع الكويتي والعوامل المؤثرة في هذا التكوين من جوانب متعددة. وقال إن هناك مفاهيم متداخلة ما بين الثقافة والحضارة، وأن البعض يفصل فيما بينهما، إلا أن معظم الكتابات تؤكد تداخل المفاهيم فيما بينهما، وأن الثقافة تشكل الحاضنة لإنتاج الإنسان القادر على التعايش في المجتمع الذي يعيشه، فيما تشكل الحضارة الأدوات التي تُمكّن الإنسان من الإنتاج في المجالات المختلفة بما في ذلك العلوم والمعارف.
وأكد الطراح أن لا حضارة دون حاضنة ثقافية تُمكّن الإنسان من إنتاج أدوات الحضارة، وأن مفهوم الحضارة يُطلق على ما ينتجه المجتمع من معالم مادية تشكلت خلال ثقافة مجتمعية تتسم بالعقلانية، وأن الحضارات باعتبارها منتجا إنسانيا، فإنها تُبني عبر العلم والمعرفة المتراكمة التي تنمو عن طريق الملاحظة وتفسير نتائجها.
وتناول فلسفة النزعة الإنسانية التي تميّزت بها دولة الكويت خلال تطورها التاريخي. وبيّن أن على الرغم من التمييز بين الثقافة والجمتع على الصعيد النظري، إلا أن ثمة علاقة وثيقة بين هذين المفهومين، حيث يتشكل المجتمع من العلاقات المتداخلة فيما بين الأفراد والجماعات، وبهذا المعنى يُنظر إلى الثقافة باعتبارها نمط الحياة السائد في المجتمع، وتكون بمثابة النواة التي تنظم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.
الأوراق البحثية التي نوقشت بالندوة، تناولت جوانب عديدة من الثقافة الكويتية، خاصة في فترة ما قبل النفط، حيث تناولت أبحث المشاركين موضوعات كالعمارة القديمة، والأزياء التراثية، والموسيقى في فترة ما قبل النفط وما تركته من أثر في الموسيقى الكويتية المعاصرة. وتحدثت الأوراق البحثية كذلك عن عوامل تشكل العقل الكويتي، والصلات الثقافية الكويتية مع دول الخليج، والعلاقات الثقافية الكويتية العربية، والواقع الاقتصادي والثقافة.
وفي ختام الندوة التي أقيمت هذا الأسبوع على مدار يومين، ألقت الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عائشة المحمود كلمة قالت فيها “إننا في المجلس الوطني، نؤمن بأهمية تسليط الضوء على هذه المراحل التاريخية المفصلية، ليس فقط لأنها تمثل جذور هويتنا الثقافية، بل لأنها تؤكد أيضا أن الكويت كانت، وستظل، منارة للعلم والتنوير والثقافة، حيث شكلت هذه الندوة محطة معرفية مهمة لاستكشاف ملامح الهوية الثقافية الكويتية في حقبة ما قبل التحول الاقتصادي.”
وأضافت “لقد أثرتنا هذه الندوة بما طرح فيها من بحوث علمية رصينة، ونقاشات ثرية، سلطت الضوء على الجوانب الفكرية والاجتماعية والأدبية التي شكلت البنية الثقافية للكويت قبل اكتشاف النفط، وأعادت إلى الذاكرة إرثا ثريا يستحق التقدير والعناية والتوثيق.” وأقيمت الندوة برعاية وزير الإعلام والثقافة ووزير الدولة لشؤون الشباب رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عبدالرحمن المطيري، وبحضور أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب د. محمد خالد الجسار، والأمين العام المساعد لقطاع الثقافة عائشة المحمود ونخبة من الأكاديميين الكويتيين والعرب.