دراما "المرآة السوداء".. عصف ذهني حول المخاوف من المستقبل

أي مخاطر تهدد مستقبلنا مع تطور الذكاء الاصطناعي؟ سؤال تحاول أعمال فنية ودرامية التفكير فيه خاصة مع تزايد مخاوف البشر من هذه الاختراعات، مخاوفهم من أن تتمرد عليهم وتدخلهم في مشكلات لم تخطر على بالهم يوما، بعضها يمكن أن يدمر الوجود البشري ويقود دفة التحكم فيه.
تشغل مآلات المستقبل حيزا مهما في عقل صناع السينما والدراما العالمية، وفي موسمها السابع الذي بثته منصة نتفليكس منذ أيام، واصلت الدراما البريطانية “المرآة السوداء” The Black mirror طرحا فنيا مميزا، تنسج من خلاله حلقات مهمة حيث تترك كل حلقة المشاهد أمام دائرة مفتوحة من التساؤلات حول المستقبل، وصور من واقع نحياه كل يوم اصطحبت معه فرضيات قد يحياها الإنسان في المستقبل.
يكشف مسلسل “المرآة السوداء” صورا من سيطرة التكنولوجيا الفائقة، وركز العمل على مفاهيمها في المستقبل كعدسة تساعد في تفكيك المخاوف البشرية من التكنولوجيا.
في حلقة “عامة الشعب”، طرح تساؤل عما سيحدث إذا زرعت شرائح إلكترونية داخل أجسادنا، وما إذا كانت زرعت عبر جراحة تستخدم تكنولوجيا متطورة بشكل مذهل لإنقاذ إحدى السيدات من موت حتمي، وكيف ستصبح حياتها بعد الجراحة، هل ستكون الشخص نفسه أم تتغير ملامحها، وكيف تستقبل دوائر المحيطين بها هذا التغير؟
أما في حلقة “البجعة السوداء” فطرح سؤال عما ستؤول إليه الأوضاع إذا اكتشفت عباقرة العلم التحكم في الواقع الذي نراه عبر ضغطة بسيطة على زر غير ملاحظ للعيان يتدلى كجزء من قلادة عنقها لتغيير الواقع عبر اكتشافها ممرات بين الأكوان الموازية.
وتطرح حلقة “الألعوبة” تطور لعبة صنعها أحد المبرمجين بذكاء اصطناعي اكتشفه منذ ثلاثين عاما ليصير أفراد اللعبة الإلكترونيين مع مرور الزمن ذوي وعي اصطناعي فائق يسيطرون معه على وعي البشر في وقتنا الحالي.
فندق ريفري
في الحلقة المعنونة باسم “فندق ريفري” اقتحمت دراما “المرآة السوداء” عالم الذكاء الاصطناعي وطرحت رؤية حول مرحلة أبعد منه حيث سردت أزمة شركة إنتاج سينمائي قديمة قدمت أعمالا فنية خالدة، أوشكت على الإفلاس لانصراف اهتمامات الدوائر السينمائية الحالية عنها، لتجد هذه الشركة العريقة حلا سحريا يحمله إليها أحد عباقرة برمجة الذكاء الاصطناعي الذي طور برنامجا يمكن من خلاله إعادة إحياء احدى روائع الأعمال السينمائية التي انتجتها الشركة في أربعينيات القرن الماضي بالأبيض والأسود عبر الاستعانة بنجم كبير من نجوم هوليوود الحاليين لإدخاله إلى أحداث الفيلم القديم وإحلال هذا النجم مكان نجم الفيلم القديم عبر محاكاة درامية متطورة.
عرضت الشركة المنتجة الأمر على عدد من النجوم الذين يرفضون جميعا باستثناء نجمة كبيرة فاجأتهم بالموافقة لعشقها الشديد للفيلم السينمائي القديم الذي عرض باسم “فندق ريفري”. بدأت التجربة وتم تركيب جهاز دقيق ملاصق لرأس الممثلة تعيش من خلاله أحداث سيناريو الفيلم الأصلي بنظام محاكاة كاملة لتجد نفسها، بعد أن تم استبدال البطل الرئيسي للعمل بها، وسط أبطال الفيلم القديم وتتفاعل مع أحداثه وتتعامل معها كل شخصيات الفيلم بوصفها البطل الرئيسي.
وأثناء ذلك تتعرض التجربة الجديدة لمشاكل تقنية ينقطع خلالها التواصل بين التقنيين صناع البرنامج المتطور وبين النجمة التي تقوم بالمحاكاة، ويظل جسدها في حالة نوم في الوقت الذي تحبس فيه شخصيتها داخل المحاكاة.
وخلال فترة العطل تعيش نجمة هوليوود حياة كاملة داخل فندق ريفري في حقبة الأربعينيات من القرن الماضي ببساطتها ورقتها ورومانسيتها الساحرة، وشرها غير المركب الواضح للعيان، وعقب عودة التواصل معها تستكمل أحداث الفيلم وعند إيقاظها في الزمن الحاضر تذرف الدمع على مغادرة هذه الحقبة الساحرة.
عامة الشعب
تطرح حلقة المسلسل التي جاءت بعنوان “عامة الشعب” التساؤل الذي طرحناه سابقا حول ماذا يحدث إذا زرعت شرائح إلكترونية داخل جسد مريض مشارف على موت محقق أثناء إجراء جراحة روبوتية دقيقة لإنقاذ حياته؟
تؤكد سردية الحلقة على زوجين محبين في نهاية العقد الثالث من عمرهما ينتميان إلى طبقة الكادحين. الزوج يعمل في مستودع أخشاب، والزوجة معلمة رياض أطفال، ورغم بساطة حياتهما ودخلهما المتواضع يعيشان في سعادة، حتى تأتي اللحظة التي تتدخل فيها سردية المسلسل لتقف بهذه الحياة الهادئة على حافة كارثة تراجيدية.
تسقط الزوجة مغشيا عليها أثناء إحدى الحصص الدراسية لتنقل إلى المستشفى في غيبوبة تامة، وهناك يخبر الأطباء الزوج أن زوجته مصابة بورم خطير في المخ سوف يفقدها الوعي حتى موتها الوشيك.
في هذه الأجواء شديدة التراجيديا يتلقى الزوج عرضا من إحدى شركات التقنيات الفائقة بأن أطباء تابعين للشركة يمكنهم القيام بمعجزة طبية لإنقاذ حياة زوجته عبر جراحة روبوتية يتم فيها استئصال الورم والأجزاء المحيطة به وزرع شريحة إلكترونية، كنسخة طبق الأصل من الجزء المستأصل، تتيح للزوجة العودة إلى الحياة. وعند سؤال الزوج عن تكلفة الجراحة نظرا لضيق ذات يده تخبره الشركة أنها جراحة مجانية، فقط هناك تكلفة لشحن الشريحة المركبة شهريا، ويوافق الزوج على العرض فورا وتُجرى الجراحة بنجاح لتعود الزوجة إلى وعيها وحياتها مجددا.
مع مضي الأحداث، يكتشف الزوجان خطورة الوضع، فالشريحة المركبة جراحيا تعمل على غرار شرائح الجوال وبتقنيات متقدمة للغاية، وطبقا لقيمة باقة الشريحة تغطي نطاقا مكانيا محدودا، ويفاجأ المحيطون بالزوجة خلال تعاملهم معها أنها تتحدث عن دعاية وإعلانات متوافقة مع المواقف المختلفة، وتبث هذه الإعلانات من الشركة على شريحتها الدماغية مباشرة، الأمر الذي يؤدي إلى فصلها من العمل وتجنب المحيطين بها التعامل معها.
وعند لجوء الزوجين للشركة التي قامت بزرع الشريحة يخبرهما المسؤولون أن الإعلانات أن الأمر لا فكاك منه لتدني قيمة باقة شحن الشريحة وعليهما شراء باقة بتكلفة مضاعفة لتجنب الأمر.
يضاعف الزوج ساعات عمله لترقية الشريحة ليُفاجأ كل فترة بمضاعفة اشتراكها، ويعجز في النهاية عن مواكبة الزيادات الكبيرة لتصير الزوجة جسدا ملقى بلا حراك، ووسط هذه المأساة تطلب الزوجة من زوجها إنهاء حياتها رحمة بها فيضع الوسادة على وجهها كاتما أنفاسها حتى الموت، كأن سرد الحلقة يعلن بذلك الخنق رأيه الصريح في أذرع الرأسمالية المتوحشة التي تمتد لتخنق الكادحين من “عامة الشعب”، تحت قناع خادع من التكنولوجيا التي تبدو حلا لمشكلاتنا ورفع مستوى رفاهيتنا، لكن واقعها متوحش لا يتورع عن نهش المكتسبات مهما كانت بسيطة.
“يوجي”.. والرموز المشرقة
تقدم حلقة “يوجي” من مسلسل “المرآة السوداء” سردا رومانسيا رفيعا، حيث يتلقى أميركي في نهاية العقد السادس من عمره مكالمة هاتفية من إحدى الفتيات البريطانيات تنبئه بوفاة حبيبته التي عشقها خلال تواجده في بريطانيا عام 1989 وتبلغه أنها ابنتها من زوج آخر تزوجته فترة وجيزة عقب انفصالهما، وأنها بحثت عن كل دائرة محبيها لإبلاغهم. من هنا تدخل معالجة القصة مرحلة المزج بتقنيات المستقبل المتطورة.
وتبلغ ابنة حبيبته بطل الحلقة أنها سترسل له جهاز ذكاء اصطناعي متطور يسمى “يوجي” عبر “درون” فائقة السرعة، وبالفعل يتسلم الجهاز ويكتشف أنه عبارة عن دائرة معدنية صغيرة تلصق على جانب الرأس ليجد حديثا مباشرا من ابنة حبيبته عبر نسختها المعالجة بالذكاء الاصطناعي تقوده الابنة إلى جولة شديدة العذوبة، ويسترجع ذكرياته المدفونة ليعيش بألقها ورومانسيتها وآلامها، ويقرر في النهاية السفر إلى المملكة المتحدة لحضور حفل تأبين حبيبته.
عندما بدأت أولى مواسم مسلسل “المرآة السوداء” عام 2011 وأبدعها كاتب السيناريو البريطاني تشارلي بروكر، كان يعتقد وقتها أن وسائل التواصل الاجتماعي وهواتف الأيفون هي رموز مشرقة للمستقبل، إلا أن العمل الكبير تطور عبر ستة مواسم وصولا إلى الموسم السابع ليشمل أخاديد درامية جديدة، مزجت بين الرعب والكوميديا، والأمل والعدمية، ومدى صلاحية الحياة داخل الوعي المصطنع ليضعنا في النهاية أمام أقسى مخاوفنا من انفلات الذكاء والوعي الاصطناعيين ليحولا أحلامنا حول رغد حياتنا المستقبلية على يديهما إلى كابوس مرعب لا فكاك من أنيابه الشرسة.
