مرافعة دي ميستورا ورسائل الأميركان: انتصار دبلوماسي مغربي في مجلس الأمن

التاريخ سيحكم على الذين جعلوا من أبناء الصحراء الأحرار الكرام متسولين للمساعدات الإنسانية كما سيسجل عنهم أنهم استغلوا مأساة مجموعة من نساء وأطفال الصحراء وحولوهم إلى غنيمة حرب.
الخميس 2025/04/17
أقدم وأكبر سجن في التاريخ الإنساني

“التجسيد الفعلي للرؤية الملكية في العمل الدبلوماسي” بهذه الكلمات تفاعلت مع سؤال لأحد الأصدقاء الصحافيين في معرض تقدير موقف حول الحراك المكوكي الدبلوماسي الأخير لوزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة لمجموعة من العواصم المؤثرة في القرار العالمي وأهمها  واشنطن ولقاءاته ذات البعد الإستراتيجي مع كبار موظفي الإدارة الأميركية كوزير الخارجية مارك أنطونيو روبيو، ومايك والتز مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشكل يؤكد على صواب ومسؤولية المواقف المغربية المؤسسة للسياسة الخارجية المغربية .

تأكيد روبيو على موقف الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب الداعم لسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية واعتبار مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الواقعي الوحيد الممكن لهذا النزاع الإقليمي المفتعل، ثم إعلان جو ويلسون السيناتور الجمهوري والقيادي البارز في مجلس الشيوخ، رئيس اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية المعنية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نيته تقديم مقترح قانون لإدراج ميليشيا بوليساريو في قوائم الإرهاب الأميركية، كانت علامات نصر تلوح من وراء المحيط الأطلسي عشية انعقاد الجلسة الدورية المغلقة لمجلس الأمن حول قضية الصحراء المغربية بنيويورك، والتي قدم فيها كل من المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء المغربية، ستيفان دي ميستورا كلمته حول جهوده لإعادة العملية السياسية والبحث عن حل تفاوضي ومستدام يحظى بموافقة الطرفين وكذلك الممثل الخاص للأمم المتحدة رئيس بعثة “المينورسو”، ألكسندر إيفانكو حول مهمة المينورسو في الأقاليم الجنوبية.

◄ الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس ليست مجرد رد فعل أو قرارات اعتباطية، بل هي خطوات إستراتيجية مدروسة ومرنة تهدف إلى تحقيق السلام الدائم في المنطقة

في ضوء قراءة متأنية لمشاركة دي ميستورا ورغم اللغة المحتشمة التي أشار بها إلى الموقف الأميركي الداعم لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية في معرض مشاركته، أو إلى الموقف الفرنسي الذي لا يقل أهمية عن الموقف الأميركي بحكم مقعد باريس الدائم في مجلس الأمن، أو الموقف الإسباني القوة الاستعمارية السابقة وأكثر الدول خارج الإقليم فهما لتعقيدات الملف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن مشاركته حافظت إلى حد ما على نفس اللغة الدبلوماسية المعهودة منذ توليه منصب المبعوث الأممي قبل أربع سنوات.

رسائل الأميركان إلى دي ميستورا كانت واضحة ودقيقة وأكيدة بأن على الأمم المتحدة الانتقال إلى ديناميكية أخرى من تدبير النزاع الإقليمي المفتعل، بدفع باقي الأطراف إلى القبول بالمقترح المغربي بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية على اعتباره الحل الأساس الأكثر جدية للتوصل إلى سلام دائم يجنب المنطقة حربا إقليمية مدمرة قد تعصف بتوازنات الأمن الإقليمي والدولي، وهو الأمر الذي يفسر رغبة الأميركان في الانخراط بكل الثقل الدبلوماسي والسياسي لإنجاح جهود الأمم المتحدة وفق سقف زمني لا يتعدى أكتوبر المقبل في الذكرى الخمسين للنزاع.

والحقيقة أن إحاطة دي ميستورا إلى مجلس الأمن يمكن اعتبارها محاكمة علنية للنظام الجزائري في مجلس الأمن حيث أكدت على مجموعة من المعطيات المرتبطة بالوضع المأساوي الذي يعيشه المحتجزون في مخيمات تندوف التي حولتها الآلة العسكرية الجزائرية إلى أقدم و أكبر سجن في التاريخ الإنساني حيث يعيش المحتجزون في ظل نظام ستاليني معقد تحت حكم قيادة عسكرية غارقة في الدموية وتهريب المخدرات والاتجار في البشر وتجارة السلاح والتنكيل بالمحتجزين، وهو ما أكدته الأحداث الأخيرة قبل أيام حيث تم إطلاق النار من طرف وحدات الجيش الجزائري المحاصرة للمخيمات على مجموعة من المحتجزين أثناء محاولة هروبهم من نحو الحدود المغربية حسب روايات متواترة ومقاطع فيديو وثقت الأمر.

دي ميستورا تحدث أيضا عن الوضعية المقلقة للأطفال والنساء في المخيمات وانسداد الأفق وانعدام فرص التغيير الذي حول المخيمات إلى بيئة حاضنة للإرهاب وجماعات التطرف العنيف. والجدير بالذكر أنه إلى حدود كتابة هذه الأسطر مخيمات تندوف لازالت مغلقة في وجه المراقبين والآليات الدولية لحقوق الإنسان، في غياب إحصاء حقيقي للاجئين وتعدادهم وتقديم كل المعلومات والمعطيات الممكن أن تقدم حقيقة وضعهم في سلم الأمن البشري، كما أن قيادات ميليشيا بوليساريو يغتنون منذ سنوات بنهب المساعدات الإنسانية الموجهة إلى سكان المخيمات وتحويلها إلى الأسواق السوداء في شمال موريتانيا ومالي وباقي دول غرب أفريقيا، عن طريق سرقتها وتهريبها عبر الصحراء الكبرى ليظل أطفال تندوف أول الضحايا إذ يتم حرمانهم من الغذاء والتلقيح والأدوية.

◄ كلمة دي ميستورا ورسائل الإدارة الأميركية تظل بمثابة إشارات واضحة على تحولات جذرية في موازين القوى في ملف الصحراء المغربية

دي ميستورا في كلمته دق ناقوس الخطر حول الوضع الخطير الذي تعيشه النساء المحتجزات في مخيمات تندوف، حيث يعانين من التمييز والفقر المدقع، ويتعرضن لانتهاكات جسيمة لحقوقهن الإنسانية، وذلك منذ عقود دون اهتمام كافٍ من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، وخاصة المدافعة عن حقوق المرأة، ممنوعة من الوصول إلى هذه المخيمات، مما يعمق معاناة النساء المحتجزات ويكرس حالة الإفلات من العقاب.

ولا يخفى على أحد أنه مهما كانت معاناة المحتجزين من سكان المخيمات، فالنظام الجزائري المتسبب الرئيسي في الانتهاكات بتواطؤ مع قيادات الميليشيات التي تتاجر بمعاناة المحتجزين من النساء والأطفال والرضع وتفرض عليهم العيش في ظروف تمس إنسانيتهم، وهو ما أكد عليه العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء 6 نوفمبر 2015 بأن “التاريخ سيحكم على الذين جعلوا من أبناء الصحراء الأحرار الكرام متسولين للمساعدات الإنسانية، كما سيسجل عنهم أنهم استغلوا مأساة مجموعة من نساء وأطفال الصحراء وحوّلوهم إلى غنيمة حرب، ورصيد للاتجار اللامشروع ووسيلة للصراع الدبلوماسي.”

من جهة أخرى مشاركة دي ميستورا يمكن أن نعتبرها هزيمة سياسية ودبلوماسية للنظام الجزائري وبشكل خاص أن الجزائر عضو غير دائم في مجلس الأمن في الفترة ما بين 2024 و2025 حيث قامت الدبلوماسية المغربية انطلاقا من مواقفها الرصينة وعقيدتها السياسية الراسخة بنسف كل المساعي والجهود التي يبذلها النظام الجزائري من أجل تقسيم المغرب وإقامة دويلة عميلة في الأقاليم الجنوبية تخدم مصالح جنرالات الجزائر.

بقراءة سريعة لديناميكيات مجلس الأمن نجد أن الولايات المتحدة تعترف بسيادة المغرب على المنطقة منذ ديسمبر 2020 بصفتها صاحب القلم، إضافة إلى الموقف الفرنسي الواضح والبريطاني الداعم لحل سياسي متفاوض والمنفتح على الاستثمار في الأقاليم الجنوبية، وعلى صعيد الدول الأفريقية تعترف سيراليون بسيادة المغرب وتملك قنصلية في الداخلة، والأعضاء الجدد مثل الدنمارك واليونان يعتبرون خطة الحكم الذاتي المغربية أساساً جيداً للحل، بينما تحافظ باكستان والصومال على علاقات متساوية مع مختلف الأطراف، غانا وبنما تعترفان بسيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية وتدعمان الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل نهائي للنزاع.

في نفس السياق الموقف الروسي والموقف الصيني لا يمكن إلا أن يكونا داعمين للموقف المغربي العادل والسلمي في ظل نجاح العقل الإستراتيجي المغربي من خلال دبلوماسية التوازنات في أن يبعد قضية الوحدة الترابية عن خطوط التماس الجيوسياسي عالية التوتر بين المحاور الكبرى في العالم.

في الجانب العسكري لا بد من التأكيد على المهنية العالية وحالة الثبات التي تظهرها القوات المسلحة الملكية في مواجهة التهديدات والتحديات التي تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، حيث أكد ألكسندر إيفانكو على روح التعاون المؤسساتي التي أظهرتها القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية المغربية وفق توجيهات القائد الأعلى رئيس الأركان العامة الملك محمد السادس مع بعثة المينورسو بشكل يساعدها على تنفيذ مهامها الأمنية والسياسة بما يخدم جهود الأمم المتحدة لتثبيت سلام دائم وعادل في المنطقة.

◄ رسائل الأميركان إلى دي ميستورا كانت واضحة بأن على الأمم المتحدة الانتقال إلى ديناميكية أخرى من تدبير النزاع الإقليمي المفتعل، بدفع باقي الأطراف إلى القبول بالمقترح المغربي بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية

ميليشيا بوليساريو هي الأخرى تعيش حالة من التشظي والتيه الأيديولوجي والانهيار التنظيمي نتيجة القيادة البهلوانية لإبراهيم غالي وباقي مجموعته العسكرية الهاوية والفشل الذريع في جر المغرب إلى حرب إقليمية بسبب السيادة الجوية للمسيرات المغربية على المنطقة الأمنية التي أصبحت محرمة ومحظورة على مركبات المرتزقة شرق الجدار الأمني واكتفائها ببلاغات عسكرية وهمية غير حقيقية، مما أثر على تماسك التحالفات القبلية داخل المخيمات وتصاعد المواجهات المسلحة بين زعماء الأجنحة المتقاتلة داخل الميليشيات بسبب ركود تجارة التهريب بكل أنواعه نتيجة السيطرة الأمنية المغربية على المنطقة العازلة وتوقف المسارات التقليدية للتهريب.

ختاما، تظل كلمة دي ميستورا ورسائل الإدارة الأميركية بمثابة إشارات واضحة على تحولات جذرية في موازين القوى في ملف الصحراء المغربية. فالانتصارات الدبلوماسية التي حققها المغرب في الآونة الأخيرة بمختلف مسارح المواجهة سواء في مجلس الأمن أو في باقي الهيئات الدولية تعكس رؤية إستراتيجية دقيقة ومتبصرة، تعزز من موقف المملكة بشكل كبير في الساحة الدولية، كما أن التدبير الفعال للصراع تطلب من العقل الإستراتيجي المغربي إنتاج ميكانيزمات مرنة تعكس القدرة على المناورة في ظل ديناميكيات سياسية ودبلوماسية وأمنية وعسكرية متغيرة في منطقة تعج بالتهديدات و المخاطر.

وفي هذا السياق، يتضح أن الدبلوماسية المغربية بقيادة الملك محمد السادس ليست مجرد رد فعل أو قرارات اعتباطية، بل هي خطوات إستراتيجية مدروسة ومرنة تهدف إلى تحقيق السلام الدائم في المنطقة وفق قواعد اشتباك واضحة تنطلق من مبدأ راسخ: لا تفاوض على الأرض؛ ومع استمرار الضغط على الأطراف المعنية للقبول بمقترح الحكم الذاتي، يبقى الأمل معقوداً على أن تُفضي هذه الجهود الدبلوماسية إلى إنهاء صراع طال أمده إلى أكثر من نصف قرن وأصبح وجوده يشكل تهديدا لمحددات الأمن البشري في الساحل والصحراء الكبرى. وصدق هنري كيسنجر عندما قال “الدبلوماسية هي فن الموازنة بين القوة والمصالح، وبين المبادئ والواقع.”

9