فضائية الحرة تخرج من تنافس شرس لم تكن مسجلة فيه أصلا

خرجت فضائية الحرة من سباق لم تكن فيه. قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن لا حاجة إلى دعاية أميركية ذاتية للسياسات. قراره جاء ضمن شريحة واسعة من القرارات التي تقيد الإنفاق البيروقراطي للحكومة الأميركية، وقد انعكس على مفاصل أهم من الإنفاق، خصوصا تلك التي تتعلق بالمعونات الإنسانية. وخلال عقدين من عمرها، لم تسجل الحرة سبقا على آخرين في المشهد الإعلامي الفضائي، مثلها مثل آخرين يدركون أن أية محاولة لتغيير هذا المشهد كانت ستصطدم بقوى “عظمى” في الإعلام العربي، تتقدمها بلا شك الجزيرة.
هذا لا يعني أن خروج الحرة ليس خسارة. في الإعلام ثمة ما يقدم دائما. الفارق ربما يكمن في أن الوصول إلى الملايين -كما يقول بيان الوداع للحرة- هو منافسة شرسة، لكن الحقيقة أن هذا الوصول مكلف خصوصا في الفضائيات، مهما حاولت العمل على تخفيض النفقات. أضف إلى ذلك أن المنصات البديلة التي تتخذ من منصات أوسع -مثل يوتيوب وتيك توك- منابر لها، توفر البنية التحتية حتى للمبتدئين. في حين تحتاج محطة فضائية كاملة تبث بطاقم وعلى مدى 24 ساعة لكي تمرر تقريرا من دقائق -يمكن أن ينشر على يوتيوب دون كلفة تذكر- إلى قناة تبث بشكل مستمر. لا نعرف كيف حسب ترامب حسبته، لكن النتيجة انسحاب الحرة من المشهد.
ربما ستذكر الجزيرة في نشراتها أو موقعها خبر إغلاق الحرة. ستذكره بأشبه ما يكون التعاطف مع حالة إنسانية يقتضي التنبيه لها. الجزيرة سياسيا لا ترحم كما تعودنا منها على مدى عقود من حضورها الخطير في المشهد الإعلامي العربي. أدرك القطريون مبكرا خطورة هذا السلاح، حتى عندما كان السعوديون سباقين إليه يوم أطلقوا فضائية أم بي سي مباشرة بعد حرب تحرير الكويت. في منتصف التسعينات، كان الانقلاب الإعلامي الذي أتت به الجزيرة جزءا من الانقلاب السياسي الأوسع الذي صنعته قطر بعد الانقلاب في بيت الحكم في الدوحة.
◄ القطريون يتصافحون ويجاملون ويتعانقون مع أعدائهم، لكنهم لا يفرطون في أسلحتهم. كل الترسانة الإعلامية تبقى كما هي، سواء استخدمت أم لم تستخدم. وحين تجدّ الحاجة إليها، فإنها تطلق بلا تردد
استفادت قطر من الجزيرة إلى أبعد ما تكون الاستفادة. وساعدتها في هذا مركزية القرار في الدوحة، حتى بوجود الثنائي الحاكم، أي الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني. ما إن اتضحت خارطة الطريق -أو للدقة مستوى ارتفاع سقف المسموح به من على منبر الجزيرة- حتى انطلق التنفيذ باستعارة ملتوية لكل طاقم فريق بي بي سي العربية الذي كان للتو قد انطلق من لندن. تم تغيير اليافطة إلى “الآن بإدارة جديدة”، وكان عالمنا العربي على موعد مع الزلزال الإعلامي – السياسي القطري الذي تحول من بين ما تحول إلى “الربيع العربي”.
قل ما تقوله عن الجزيرة، لكن لا تصفها بالفاشلة. حتى في تراجعها، كانت تستطيع أن تبقي على مريديها ولا تفقدهم، ولو من خلال دغدغة مشاعرهم المتعاطفة مع قضايا مباشرة تمس وجدان أي عربي مثل القضية الفلسطينية، أو عبر استعارة القضية الفلسطينية نفسها للإيحاء بأن الجزيرة متعاطفة مع حزب الله وقضاياه مثلا. التعاطف مع حزب الله يكسبها مجانا مشاهدين وحضورا ملموسا في شمال أفريقيا على سبيل التنويه وليس الحصر. ربحت الاهتمام بالشأن العراقي بالإيحاء بالتعاطف مع البلد حتى يوم كانت الطائرات الأميركية تنطلق من على بعد خطوات من أستوديوهات الجزيرة لتغير على العراق في التسعينات وصولا إلى غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلالها بغداد والإطاحة بنظام صدام حسين، النظام الذي ظل مقتنعا بأن قطر والجزيرة حليفان له إلى آخر لحظة من حياته. لقطر حليف واحد اسمه قطر.
أهم سلاح أفاد الجزيرة هو البيئة الإخوانية. برعت القناة في استخدامها، بل وتمكن الإخوان من تنفيذ انقلاب داخلي بالإتيان بمدير من الإخوان على حساب مدير “قومي”. حاولت القيادة القطرية في مرحلة لاحقة استعادة زمام المبادرة في القناة، وليس من المؤكد الإشارة إلى أنها نجحت في ذلك. لكن المحصلة تبقى لصالح المشروع القطري، إعلاميا أولا وسياسيا ثانيا. الصالح الإعلامي إنما يظهر ويتردد يوميا من خلال تعثر المنافسين.
المنافس الأهم -ولا يزال- هو فضائية العربية. البداية كانت مع غزو العراق وكانت للقائمين على العربية فلسفة أننا مع الغزو تلميحا وتصريحا. وتحت راية الصحافي المخضرم والمتمكن عبدالرحمن الراشد، استطاعت العربية أن تحفر لنفسها مكانا لدى المتذمرين من إخوانية الجزيرة أو يساريتها -بعد أن اكتشف اليسار العربي عناوين فنادق الدوحة الفاخرة.
هذا التقسيم بقي على حاله لسنوات. تحاصصت الجزيرة والعربية المشاهدين الذي تقول بيانات سبر الآراء لهم بأنهم يمثلون ما يمثلونه من شرائح عرقية وأفكار وتوجهات دينية. حين غضبت قطر من نظام بشار الأسد، وانقلبت الجزيرة معها، تحول جمهور الفلسطينيين والممانعة من مريدي إيران لصالح خطابها الفلسطيني وصوتها الحامل لرسالة حزب الله، إلى فضائية الميادين. ما بين الجزيرة والعربية، كان التأطير هو الأساس من دون انقلابات كبيرة على الأرض. حتى من انقلب على حزب الله مثلا، صار يقول أنا مع ما تقوله هذه الفضائية أو تلك عن الحزب وصوته الإعلامي لهذا السبب، ولكنه ليس معها في كل شيء.
◄ خروج الحرة من "سباق" الفضائيات لا يقدم ولا يؤخر. فمثلما كان دخولها يقع في فئة لزوم ما لا يلزم، فإن خروجها وآخرين قبلها وبعدها، سيكون من نفس الفئة
لسبب ما انقسمت العربية على نفسها مرتين. مرة حين إطلاق فضائية الحدث، ويبدو الأمر محاولة للتمييز بين الخبر المستعجل والآني، وبين إتاحة الفرصة بوقت أطول من على العربية. أما المرة الثانية فجاءت غرائبية بعض الشيء حين شتت عبدالرحمن الراشد جهده وأطلق فضائية الشرق، التي أخذت مرة أخرى من جمهور العربية من دون أن تؤثر على حضور الجزيرة. الشرق قناة رصينة، ولكنها لم تتمكن من تغيير معادلة التأطير أو الاستقطاب. لعلها تماشت مع مرحلة الإعداد لرؤية السعودية 2030، لكن أسوة بكل مشروع الرؤية، تتغير الأمور بسرعة إلى درجة يصعب معها القول: أين نقطة البداية وماذا كان الهدف؟
المحاولة الجدية الأخرى جاءت من سكاي نيوز عربية. اشترت أبوظبي اسما تجاريا معروفا في عالم الإعلام، وبدا الأمر للوهلة الأولى أنها اشترت القالب الإنجليزي معه. لكن سكاي نيوز عربية ضيعت سنوات طويلة في “الانطلاق” من خلال الاعتماد على طاقم تقني أكثر من اللازم، افتقد الحس السياسي للهدف من القناة ومن دقة المرحلة سياسيا كتوقيت. الوقت واختياره كانا ثمينين وضاع في تفاصيل انطلاقة استمرت لسنوات.
استعانت أبوظبي بمشاريع إعلامية مساندة في عالم الصحافة المطبوعة والأونلاين سرعان ما تخلت عنها أو قلصتها لأسباب مختلفة، ثم قررت تجديد إدارة سكاي نيوز عربية. لا زال من المبكر الحكم إن كانت سكاي نيوز عربية ستنجح في مسعاها تسجيل الحضور أم الاكتفاء بحصة صغيرة. كانت فرصة “طوفان الأقصى” مهمة لأنها هزت المشهد الإعلامي هزة قوية ووفرت للآخرين منافسة الجزيرة والعربية. حتى الآن، تبدو الأمور على حالها.
يقول القائمون على الحرة في بيان الوداع إن الآخرين يتغذون على النهش الإعلامي من سمعة الولايات المتحدة. هو توصيف دقيق، لكنه لا ينحصر في الولايات المتحدة. العالم العربي بادر مبكرا ومنذ سنوات طويلة في عملية الفرز والاختيار. السعودية تحت الهجوم مهما قدمت العربية، والإمارات بنفس الحال على الرغم من أن سكاي نيوز عربية الآن تستضيف متحدثين من قلب طهران أو محللين يتحدثون بكل أريحية عن حزب الله وتأييدهم له ولداعمه الإيراني.
لو تم الإنصات لما يقوله رجل الشارع العربي -حتى ذاك الذي يعيش في الغرب ويتأثر بالرسالة الإعلامية الغربية- لوجدنا أن الفضائيات هي مرايا لما يحدث وما يقال، وتكاد تعجز عن إحداث التغيير. كيفما تقلب الأمر، تصدم بأن نسبة كبيرة من الفلسطينيين لا يزالون يرون في “طوفان الأقصى” انتصارا وأن الثمن الذي تم دفعه، على الأقل في غزة، يستحق. أما ما حدث خارج غزة، فيحاول الفلسطينيون النأي بأنفسهم عنه ويتركون تفسيره لإيران، التي تعرف حجم الانتكاسة الإستراتيجية التي تعرضت لها.
وللمفارقة، فإن نفس الفلسطينيين الذين يتهربون من الرد الحاسم في ما يخص الحال الذي وصل إليه حزب الله وحلفاء إيران من الحشد الشعبي والحوثيين في المنطقة، لا يزالون يؤيدون الاستمرار مثلا في ضرب السفن التجارية العابرة في البحر الأحمر على الرغم من أن مصر هي المتضررة وليس إسرائيل. إنها نفس مصر التي من المطلوب منها أن توفر معبرا للبضائع والسلع والطعام للفلسطينيين المحاصرين في غزة.
◄ قطر استفادت من الجزيرة إلى أبعد ما تكون الاستفادة. وساعدتها في هذا مركزية القرار في الدوحة، حتى بوجود الثنائي الحاكم، أي الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ورئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني
مرة أخرى نذكر أن خروج الحرة من “سباق” الفضائيات لا يقدم ولا يؤخر. فمثلما كان دخولها يقع في فئة لزوم ما لا يلزم، فإن خروجها وآخرين قبلها وبعدها، سيكون من نفس الفئة.
أين يمكن أن يحدث الفارق؟ لعل من الصعب الحكم. فالقطريون تحركوا مبكرا جدا، ليس فقط للاستحواذ على عقول المشاهدين، فقد تغيرت أجيال من هؤلاء المشاهدين خلال العقود الماضية وكان من الممكن الاشتغال لسنوات على التهيئة لاستقبال الأجيال الجديدة من المشاهدين، ولكن لأن معطيات القضايا المصيرية في المنطقة هي التي تأبى أن تتحرك أو أن تتغير أو أن يقبل القائمون عليها أن يغيروا مواقفهم.
نستطيع أن نقول إن للجزيرة حظوظا أكبر وأقوى في الاستمرار على المدى المنظور. فالقطريون يتصافحون ويجاملون ويتعانقون مع أعدائهم، لكنهم لا يفرطون في أسلحتهم. كل الترسانة الإعلامية تبقى كما هي، سواء استخدمت أم لم تستخدم. وحين تجدّ الحاجة إليها، فإنها تطلق بلا تردد، بل هي تطلق كبالونات اختبار بين الحين والآخر، حتى لو لم تكن ثمة ضرورة لذلك. والمنتسب في الجزيرة ليس مهددا في عيشه، بل يتعامل على أساس أن الجزيرة وظيفة لمدى العمر. هذا يأتي بميزانية مكلفة بالطبع، لكنّ له عائدا بالولاء والتفاني يتلمسه المحترفون من الإعلاميين في عالمنا العربي يوميا.
الجزيرة ملف على مكتب أمير البلاد ومن الواضح أن من غير المسموح المس به من دون إذنه. هذا ما يجعل الجزيرة قوة إعلامية “عظمى” طالما كانت محمية وممولة، وطالما بقي ما يكفي من الجماهير -نستعير التوصيف الماركسي- التي تعتقد أن من الممكن الجمع بين أموال الغاز والدعاية السياسية القطرية مع قضايا الأمة المصيرية. إلى حين تغير هذه القناعات، فإن سوق سباق الفضائيات مفتوحة لدخول وخروج متسابقين ليسوا مسجلين أصلا.