أي بدائل تحول دون حروب إضافية في الشرق الأوسط

منذ صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة في يناير الماضي لا حديث سوى عن “الضغوط القصوى” والتلويح بالجحيم في الحديث عن حماس وحزب الله وإيران. حديث عن حروب مباشرة وأخرى اقتصادية وجمركية تجعل المنطقة، والعالم ككل يعدّل حياته على ساعة ترامب.
قد يجد البعض أن ترامب محق في استهدافه مجاميع متطرفة مرتبطة بإيران ولا هدف لها سوى تثبيت نفوذ طهران في الإقليم. والأمر نفسه تقوم به إسرائيل منذ عام ونصف العام منذ ردها على هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023. وطالما أن الحرب تستهدف المتطرفين وتُخاض ضد إيران، فهذا يصبّ في مصلحة العرب.
لكن هذا الاستنتاج يغفل النظر عن حقيقة أن الحروب التي يأمل بها البعض هي تحت شعار "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين،" وهذه الحقيقة تقول إن الحروب تقوم على رؤوس العرب وعلى أراضيهم وتذهب بأرواح أبنائهم وأغلب الضحايا من الأبرياء. فالحرب بين إسرائيل وإيران في غزة ولبنان وبين إيران والولايات المتحدة في اليمن، وقد يتطور الأمر ليصبح حربا في العراق. ومن المستبعد أن تتم على أراضي إيران لأنها تحسبت للأمر من خلال إنشاء أذرع في أكثر من بلد عربي لتحارب بالوكالة عنها على أرض غير أرضها.
ولا يقف الأمر عند التصعيد الأميركي - الإسرائيلي - الإيراني، فهذا محور من محاور الحروب المفتوحة على المجهول في الشرق الأوسط. هناك أيضا الدور التركي الذي يعمل بطريقة أقل صخبا وأكثر نجاعة في تأمين نفوذ أنقرة بالإقليم سواء بشكل مباشر أو في تحالف مع روسيا.
نجحت تركيا في سحب البساط من تحت أقدام الإيرانيين في سوريا ووضعت اليد على مكاسبهم من خلال تحريك هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل الموالية لأنقرة مستفيدة من مناخ دولي كان هدفه الأول إضعاف نفوذ إيران ومحاصرة دعمها لحزب الله وحماس. تركيا التقطت اللحظة ودفعت لإسقاط بشار الأسد رغم أنه لم يكن مشكلة بالنسبة إلى إسرائيل، لكنه دفع ثمن تحالفه مع إيران وتحويل أراضي بلاده إلى معبر سلاح وتمويل لحزب الله.
وفيما سعى الإيرانيون لإظهار أن إسقاط الأسد يستهدف مصالح روسيا على أمل توتير علاقتها مع تركيا. لكن ظروف موسكو لم تكن تسمح بردة فعل غاضبة كما حصل في إسقاط طائرة روسية على الحدود السورية – التركية في 2015. ونجحت أنقرة في تهدئة غضب موسكو وأوحت للرئيس السوري الحالي أحمد الشرع بإطلاق تصريحات لطمأنة الرئيس فلاديمير بوتين بأن دمشق على استعداد للتفاوض حول القواعد الروسية وحفظ مصالح الروس.
◙ سيكون من المهم إعادة تصويب مفهوم المقاومة وربطه باللحظة التاريخية. فما كان جهادا بالبدن في السنوات الأولى لنبوة محمد (ص) هل ما زال ينفع في مواجهة آلة حربية
وما يجري الآن في سوريا من تصعيد تركي – إسرائيلي هو جزء من لعبة الاستفادة من التغييرات التي أنتجتها حرب أكتوبر 2023. إسرائيل تريد السيطرة على المجال السوري والتحرك فيه بحرية والضغط الأقصى على حكومة الشرع لمنع أيّ تهديد إستراتيجي لأمنها. لكن تركيا التي أطاحت بالأسد وطردت إيران من سوريا تريد تأمين وجودها في بلد ضروري لأمنها القومي. لا شك أن الصراع سينتهي إلى توليفة لتقاسم النفوذ في سوريا حتى وإن تغلف ذلك بشعارات صاخبة أو تلويح بالمواجهة. تلك وسائل تضليل لتأمين التوافقات التي تتم في السر بين الطرفين سواء كان ذلك بوساطة أميركية أو دون واسطة.
فكل طرف يريد ضمان مصالحه أو الدفاع عن أمنه القومي يرمي مشاريع وتهديدات في المنطقة. لا أحد يحمل خططا حقيقية لمساعدة دول الإقليم على الخروج من أزماتها، أو مساعدتها على التفرغ لإنجاز مشاريع تصب في خدمة المستقبل. وجزء من لعبة التصعيد في الشرق الأوسط يهدف إلى إلهاء العرب عن التطوير والتغيير بما في ذلك الأمم المجاورة لهم مثل إيران أو تركيا.
بدأ وعي عربي بهذه الحقيقة في السنوات الأخيرة، من ذلك سعي السعودية للخروج من حرب اليمن والتوصل إلى تفاهمات مع الحوثيين ومع إيران لتبريد الخلافات. ورغم أن السعودية كانت جادة في التهدئة مع إيران ودفعت إلى إنجاح الحوار مع الحوثيين باستقبالهم على أرضها، وتقديم تسهيلات منها ومن شركائها في اليمن لإنجاح الحوار، إلا أن الحوثي ظل يناور ويشتري الوقت. وينتظر أن يعود بعد الحرب الحالية إلى نقطة الصفر التي انطلق منها الحوار بترديد سردية شعارات قديمة عن وقوف السعوديين إلى جانب الأميركيين في استهداف صنعاء، وترويج التسريبات والإشاعات حول دعم انطلاق طائرة أميركية من مطار سعودي أو تزودها بالوقود.
ليس من مصلحة إيران أن تتفرغ السعودية لقضاياها الداخلية وأن تنفذ مشاريعها الكبرى. وهذا يعني أن الإيرانيين مضطرون إلى أن يفعلوا مثلها لأن الناس سيقولون لهم مللنا من الحروب وشعارات الثورة ونريد استقرارا ومشاريع تحسن دنيانا بدل الحديث الذي لا يتوقف عن الجهاد والشهادة.
هناك دول أخرى مثل الإمارات سعت لترك الحروب والصراعات وراءها والتركيز على الاستثمارات والمشاريع الكبرى في الداخل والخارج وتحويل القطيعة مع عقود الأزمات إلى أمر واقع، ما قد يشجع عربا آخرين على الحذو حذوها واستثمار قدراتهم في بناء المستقبل وليس على الحرب.
وتحتاج هذه الإستراتيجية لأن تصبح توجها عربيا شاملا، على مستوى كل دولة وعلى المستوى الجماعي، بدلا من أن تظل مبادرات خاصة. لكن من المهم أن يغير العرب في المشرق والمغرب أسلوبهم، الذي ينظر إلى اللحظة الحالية وينفق خلالها الوقت والجهد والإمكانيات على إدارة لعب محلية صغيرة.
ولعل الخطوة الأهم هي التوافق على ضرورة الخروج من مرحلة الارتهان للآخر، وخاصة تطويق الصراعات بين الدول وبين الأطراف المتنافسة في كل بلد. ولو أخذنا الملف الفلسطيني مثالا سنجد أن الخلافات الداخلية ليست على مشاريع أو على هدف التحرير، وإنما على المصالح الفصائلية التي ترتبط في الغالب بأجندات خارجية.
◙ هل سيقدر العرب على تشكيل لجنة حكماء مهمتها تبريد الخلافات وتوعية المتصارعين بمخاطر هذه الخلافات على أمن بلدانهم
سيكون من المهم إعادة تصويب مفهوم المقاومة وربطه باللحظة التاريخية. فما كان جهادا بالبدن في السنوات الأولى لنبوة محمد (ص) هل ما زال ينفع في مواجهة آلة حربية تقتل العشرات بضغطة واحدة، وهل البندقية التي كان القسام يخوض بها المقاومة/الجهاد ما زالت حسيا هي آلة التحرير. والهدف من هذه الأمثلة هو العمل على تطوير مفهوم المقاومة وإخراجه من التنميط ونحت مقاربة مقاومة جديدة تمكن الفلسطينيين من أن يتفاوضوا لاسترداد حقهم دون حاجة إلى إفناء عشرات الآلاف.
وما يقال عن الفلسطينيين يقال عن السودانيين، الذين يخوضون معارك عبثية لأجل السلطة. وسيحتاج الأمر إلى ضغوط عسكرية واقتصادية ودبلوماسية لجلب المتصارعين إلى طاولة الحوار مع التزام من مختلف الأطراف العربية المعنية بالملف السوداني على تحقيق هذا الهدف وتمكين السودان من مداواة جروحه والاستعداد لمواجهة تحديات المستقبل. يكفي من صراعات الملل والنحل، وكشف تعاقب الشيوعيين والبعثيين والإسلاميين على الحكم أن لا أحد بيده مصباح علاء الدين لإخراج السودان من أزماته. الحل في الحوار وشراكة جدية على قاعدة مصالح السودان وليس خدمة أجندة فلان أو علان.
وما يقال عن السعي لوقف الصراعات الداخلية في الدول يقال عن وقف التوترات بين الدول، وهي توترات مرتبطة بالحرب الباردة، ووهم الزعامة التي توارثها البعض معتقدين أن قيمة الزعيم تكمن في معاداة جيرانهم واستعراض القوة ضدهم.
وبالنتيجة، هل سيقدر العرب على تشكيل لجنة حكماء مهمتها تبريد الخلافات وتوعية المتصارعين بمخاطر هذه الخلافات على أمن بلدانهم، وخاصة أنها تمثل خير هدية للقوى الإقليمية والدولية المتنافسة على المنطقة. ولاحقا يمكن لهؤلاء الحكماء أن يدفعوا إلى الشراكات العربية البينية، شراكات اقتصادية وتجارية حقيقية، وليس على شاكلة ما تضمه أرفف الجامعة العربية من مشاريع وخطط عفا عليها الزمن.