محمود درويش يعيد الجازمان أنور براهم إلى الإنتاج الموسيقي

"بعد السماء الأخيرة".. من تساؤلات وجودية لدرويش إلى ألبوم موسيقي ثائر.
السبت 2025/03/29
موسيقي انطلق من المحلية نحو العالمية

ماذا هناك بعد السماء الأخيرة؟ سؤال حاول التفكير فيه محمود درويش انطلاقا من السردية الفلسطينية، دون أن يقترح إجابات ميتافيزيقية ممكنة، بل ترك المجال متاحا أمام كل قارئ أو مستمع ليعيد طرحه والتفكير فيه، وهاهو اليوم الموسيقار التونسي أنور براهم يطرح السؤال على طريقته، بموسيقاه التي تمزج بين آلات عديدة تأخذنا في رحلة وجودية وحسية لا تتكرر.

بعد ألبومه “بلوز مقام” أو “المقامات الزرقاء” الصادر عام 2017 والذي وصفه بأنه “قارب النجاة الذي أنقذه من التشاؤم.” غاب الجازمان التونسي أنور براهم عن إصدار ألبومات موسيقية جديدة، حتى قرر أن يعود هذا العام بمشروع موسيقي “ثوري” اقتبسه من عوالم الشاعر الفلسطيني محمود درويش الملقب بشاعر الثورة، والذي تطرح قصائده أسئلة وجودية عميقة.

والمشروع الذي يعيد أنور براهم يحمل اسم “بعد السماء الأخيرة” واقتبسه الفنان من بيت شعر للشاعر الفلسطيني درويش يتساءل فيه “إلى أين يجب أن تطير العصافير، بعد السماء الأخيرة؟”

جاء هذا التساؤل في قصيدة لدرويش عنوانها “بعد السماء الأخيرة”، وفيها يقول: “تَضِيقُ بِنَا الأرْضُ تَحْشُرُنَا في المَمَرِّ الأخير، فَنَخْلعُ أَعْضَاءَنَا كَيْ نَمُرَّ وتَعْصُرُنَا الأرْضُ. يَا لَيْتَنَا قَمْحُها كَيْ نَمُوتَ وَنَحْيَا. وَيَا لَيْتَهَا أُمُّنَا لِتَرْحَمَنَا أُمُّنَا. لَيْتَنَا صُوَرٌ لِلصُّخُورِ التي سَوْفَ يَحْمِلُهَا حُلْمُنَا مَرَايَا. رَأَيْنَا وُجُوهَ الذينَ سَيَقْتُلُهمْ في الدِّفَاع الأخيِر عَن الرُّوحِ آخِرُنَا بَكَيْنَا عَلَى عيدِ أَطْفَالهم وَرَأَيْنَا وُجُوهَ الذينَ سَيرْمُونَ أَطْفَالَنَا مِنْ نَوَافِذِ هذَا الفَضَاءِ الأَخِيرِ. مَرَايَا سَيَصقُلُهَا نَجْمنَا إلَى أَيْنَ نَذْهَبُ بَعْدَ الحُدُودِ الأخيرَة ؟ أَيْنَ تَطِيرُ العَصَافيرُ بَعْدَ السَّمَاءِ الأَخِيرةِ أَيْنَ تَنَامُ النَّباتَاتُ بَعْدَ الهَوَاءِ الأخِيرِ؟ سَنَكْتُبُ أَسْمَاءنَا بِالبُخَارِ المُلَوَّنِ بِالقُرْمُزِيِّ سنَقْطَعُ كَفَّ النَّشِيدِ لِيُكْمِلَهُ لَحْمُنَا هُنَا سَنَمْوتُ هُنَا في المَمَرِّ الأخيرِ هُنَا أَو هُنَا سَوْفَ يَغرِسُ زَيْتُونَهُ..دَمُنَا.”

الألبوم يمثّل أول إدراج لآلة التشيلو في موسيقى مجموعة أنور براهم، حيث سيفتتح الألبوم بآلة التشيلو ويختتم بها
الألبوم يمثّل أول إدراج لآلة التشيلو في موسيقى مجموعة أنور براهم، حيث سيفتتح الألبوم بآلة التشيلو ويختتم بها

الأرض لم تحضر في قصائد درويش بالمعنى الجغرافي والمكاني، فقط، بل بمعناها الوجودي في الأساس، بصفتها المحور الذي دار حوله معظم المنجز الأدبي الفلسطيني، منذ بدايات القرن العشرين. فالأرض، وكذلك الهوية، هما بؤرة الصراع، ومدار المتخيَّل الأدبي، بأنواعه وأشكاله المختلفة، السردية والشعرية، والسماء ليست إلا جزءا من هذه الأرض. وتساؤلات درويش ما هي إلا انعكاس/أنموذج لتساؤلات وجودية تطرحها البشرية منذ الأزل، أين تطير الأرواح بعد السماء الأخيرة، لا أحد يعلم، فلم يعد أحد بعد طيرانه ليخبرنا بما وجده هناك.

وأسئلة درويش هذه، تركت مفتوحة دون إجابات، صالحة لكل زمان ومكان، طالما أن الواقع لم يتغير بل ازداد سوءا، أسئلة لم تثر انتباه أنور براهم فقط وإنما جذبت المفكر إدوارد سعيد قبله بعقود، حيث استمد منها عنوان كتابه “ما بعد السماء الأخيرة : حيوات فلسطينية” الصادر عام 1986 والذي جاء كنصوص وتأمّلات سياسيّة تنظر في مصير الفلسطينيّ المقتلع خارج أرضه وداخلها وتستعرض إشكاليّة الوجود الفلسطينيّ.

ويأتي “بعد السماء الأخيرة” لأنور براهم ليكون امتدادا لهذه الأسئلة الوجودية التي طرحها درويش بالكلمة ويعيد طرحها براهم بالنغمات الموسيقية، سؤال يسجن كل من يطرحه، فلا أحد حتى الآن وجد إجابة شافية للسؤال اللغز في قصيدة محمود درويش، “أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟”، والعصافير هنا ليست فقط العصافير ككائنات فكل طفل وكل شاب هو عصفور طارت روحه نحو السماء الأخيرة قبل أوانها، ألم نتفق نحن العرب (ونحن نادرا ما نتفق) على أن “عصفور الجنة” هو الطفل والشاب.

وأنت تستمع لـ”بعد السماء الأخيرة” لن تستطيع إلا أن تفكر في أطفال فلسطين، طيورها الذين طاروا ويطيرون كل يوم نحو السماء الأخيرة، وأنت تنصت بعمق لنوتات الآلات الموسيقية لن تملك إلا أن تستعيد السردية الأحدث للوجع الفلسطيني، منذ السابع من أكتوبر المرير، الذي حوّل غزة إلى بوابة نحو السماء الأخيرة، ستهاجمك الصور الموجعة والفيديوهات “القاتلة” وصرخات المكلومين والمكلومات، ستلعب في مخيلتك مثلما شاءت لتضيف إلى أنغام أنور براهم أنغاما أخرى أكثر واقعية وإيلاما وفنا، ألم يتفنن الاحتلال في قتل الأطفال والأبرياء وتفننوا هم في تعليمنا دروسا في الصمود والتمسك بكل أوجه الحياة.

وسط هذا الطوفان الهائل من الأسئلة الوجودية وذكريات القتل والتهجير المستمرة منذ نحو قرن، يقدم لنا الجازمان التونسي أنور براهم قطعا موسيقية رقيقة للعود والتشيلو والبيانو والكونترباص بمهارة، ويطرح علينا في عنوان الألبوم، هذا السؤال الميتافيزيقي وأصداءه الواسعة في هذه الأوقات العصيبة التي نعيشها في الوطن العربي لاسيما فلسطين.

وبينما يعتمد براهم على الأنماط التقليدية للموسيقى العربية، فإنّه يسعى دائما إلى التفاعل مع العالم الخارجي، حيث يجد الإلهام في العديد من الثقافات المختلفة، ويحاول إدخال تقنيات موسيقية بالتعاون مع أشهر وأمهر العازفين حول العالم.

ومرة أخرى، يشكّل عازف القيثارة دايف هولاند وعازف البيانو جانغو بيتس جزءًا من الرباعي العالمي لأستاذ العود التونسي، وذلك بعد انضمّت إليهم عازفة التشيلو أنيا ليشنر، كعنصر رئيسي في هذا العمل الفني، وهي أيضا على دراية بمؤلفات براهم، وعملت على استعمالها وإدماجها في حفلاتها الخاصة.

ويمثّل هذا الألبوم أول إدراج لآلة التشيلو في موسيقى مجموعة أنور براهم، حيث سيفتتح الألبوم بآلة التشيلو ويختتم بها.

أما الشراكة بين براهم وهولاند، والتي نشأت للمرّة الأولى مع ألبوم “ثمار” عام 1998، فباتت أسطورية، ويقول براهم إن “عزف دايف هولاند يمنحني أجنحة، وهو شعور يتكرّر ويغمُرني خلال التسجيل.” كما يوفّر البيانو الذي يعزف عليه جانغو بيتس، وهو قوة داعمة في هذا المشروع الموسيقي، عزفا منفردا طائرا، وفق براهم.

وعن الألبوم كتب الناقد الفني آدم شاتز “موسيقى أنور براهم في هذا السياق الأدبي الجمالي، وكذلك في علاقة أيضا بالحرب الفلسطينية المستمرّة من أجل حقوقهم، تعكس مدى انشغاله حدّ الهوس بهذا الموضوع المؤلم، أثناء إعداد هذا الألبوم.”

وأنت تستمع لـ"بعد السماء الأخيرة" لن تستطيع إلا أن تفكر في أطفال فلسطين، طيورها الذين طاروا ويطيرون كل يوم نحو السماء الأخيرة
وأنت تستمع لـ"بعد السماء الأخيرة" لن تستطيع إلا أن تفكر في أطفال فلسطين، طيورها الذين طاروا ويطيرون كل يوم نحو السماء الأخيرة

وتأتي عناوين المقطوعات الموسيقية مؤشرات يمكن للمستمع أن يأخذها في الحسبان أو أن يتّخذها دليلا وإماما يقوده لفهم الموسيقى والتمعّن فيها، وفق ما دوّنه شاتز في كُتيّب الألبوم.

وأنور براهم هو موسيقي وعازف عود تونسي شهير، يُعرف بأسلوبه الفريد الذي يمزج بين الموسيقى العربية التقليدية، موسيقى الجاز، والموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. يعتبر أحد أبرز المجددين في العود، حيث نقل هذه الآلة إلى فضاءات موسيقية جديدة، بعيدًا عن القوالب التقليدية.

 تتميز موسيقى براهم بحضور طاغ لإحساسه العميق والتقنيات المتطورة في العزف، مع التزامه الدائم باستخدام الصمت والمساحات الموسيقية لخلق أجواء تأملية، تجعل ألحانه ذات طابع سردي درامي، أقرب إلى مساحات تأمل وجودية.

كما تحضر موسيقاه في عدد من الأعمال السينمائية البارزة، من بينها فيلم “صفايح من ذهب” للمخرج التونسي النوري بوزيد، و”عصفور سطح” لفريد بوغدير و”صمت القصور” و”موسم الرجال” للراحلة مفيدة التلاتلي.

وتبلغ مُنجزات براهم 12 ألبوما، منها: “برزخ” (1991)، “مدار” (1994)، “خمسة” (1995)، “خطوات القط الأسود” (2002)، الذي يعتبر بداية مرحلة تخصصه في موسيقى الجاز، وأصدر فيما بعد “رحلة سحر” (2006)، و”بلوز مقام” (2017)، وأخيرا ألبومه “بعد السماء الأخيرة”.

وضع براهم أسس مشروعه الفني في تونس منذ ثمانينات القرن الماضي، ثمّ انطلق لنحت مسيرة فنية عالمية ناجحة. وفي مفتتح التسعينات مع بداية تعامله مع شركة “آي سي آم ركوردز”، إحدى أهمّ الشركات العالمية في مجال الإصدار الموسيقي، اِنطلقت مسيرته العالمية، وسجّل مع الشركة 9 ألبومات لاقت استحسان النقاد العالميين. وتحظى مؤلفاته بإقبال جماهيري داخل تونس وخارجها، وهي تشكّل جزءا من الذاكرة الجماعية في تونس.

14