درعا التي أسقطت النظام مرتين

النظام السوري سقط وأسقط ثوار درعا تمثال الأسد الأب للمرة الثانية وتم تغيير اسم الساحة التي كان ينتصب فيها من "ساحة الأسد" إلى "ساحة 18 آذار" وفاءً لذكرى الثورة السورية.
الخميس 2025/03/20
درعا تودّع قتلاها

شاءت الأقدار أن أرى بالعين المجردة لحظة استهداف الطيران الإسرائيلي للموقع العسكري السوري في مدينة درعا، والذي يبعد حوالي 200 متر عن منزلي. لا حاجة للحديث عن الطنين الذي استوطن في أذنيّ لعدة ساعات، والصدمة التي اعترتني واعترت بدورها كل من كان سائرًا في الشارع أو واقفًا على شرفة منزله.

اللافت في هذا القصف الإسرائيلي أنّه كان في وقت الذروة، وهو وقت انتهاء المصلين من صلاة التراويح، حيث تكتظ الطرقات بالمتجولين. قصفت إسرائيل درعا عدة مرات، ولليوم لم يغب عن ذاكرتي أعنف قصف عاصرته في حياتي، أنا المعتاد على الحرب وأوزارها منذ بداية الثورة السورية، حين قصف الطيران الحربي الإسرائيلي كتيبة التسليح التي تبعد عن منزلي حوالي 100 متر، ولكنها تقع في عمق الوادي. أدى ذلك إلى تحطم كل نوافذ المنزل. كان الاستهداف في الساعة الرابعة إلا ربعا فجرًا، ولم يمت أحد. أما الاستهداف الأخير فقد ذهب ضحيته شابان ورجل عجوز.

واللافت أن الموقع الذي تم استهدافه لا يحتوي على أيّ أسلحة إستراتيجية أو متطورة. لا يحتوي سوى صناديق للرصاص وألغام أرضية منتهية الصلاحية، تحتاج إلى حرارة كبيرة حتى تنفجر. لهذا السبب استمر صوت الانفجارات لعدة ساعات بعد القصف.

حدث هذا الاعتداء في وقت تستعد فيه درعا لإحياء ذكرى الثورة، فهي مهد الثورة وفجرها. من درعا خرجت باكورة الصيحات التي طالبت بإسقاط النظام، وقام أبناؤها لأول مرة بتمزيق صور الأسد الابن، وأسقطوا تمثال الأسد الأب، مما دفع الكثير من المحافظات السورية إلى القيام بذات الفعل.

في ربيع 2011، أسقط الثوار تمثال الأسد الأب وسط مدينة درعا، وهو الذي لم يزر محافظة درعا سوى مرة واحدة عام 1972. كان تمثال الأسد يقع مقابل بيت المحافظ تحديدًا. حينها رد عناصر النظام بعنف وقتلوا عدة أشخاص. وفي العام 2018، أعاد النظام نصب تمثال له بعد سلسلة تسويات معقدة في محافظة درعا. كانت هناك دورية أمنية من عدة عناصر شرطية تتناوب باستمرار حول التمثال لحمايته. أهل درعا أطلقوا عليهم تندرا: “حراس الصنم.”

◄ الموقع الذي تم استهدافه لا يحتوي على أيّ أسلحة إستراتيجية أو متطورة. لا يحتوي سوى صناديق للرصاص وألغام أرضية منتهية الصلاحية، تحتاج إلى حرارة كبيرة حتى تنفجر

سقط النظام السوري، وأسقط ثوار درعا تمثال الأسد الأب للمرة الثانية، وتم تغيير اسم الساحة التي كان ينتصب فيها من “ساحة الأسد” إلى “ساحة 18 آذار”، وفاءً لذكرى الثورة.

تجمع الآلاف من أبناء درعا، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساؤهم، في ساحة البانوراما بطريقة منظمة، وأحيا الجميع ذكرى ثورتهم بالهتافات والشعارات الوطنية، وتزينت سماء درعا بالألعاب النارية.

دفنت درعا شهداءها الذين قضوا بسبب القصف الإسرائيلي، وتمت صلاة الجنازة في المسجد العمري، الذي يحمل رمزية كبيرة. هذا المسجد الأثري تم قصفه عدة مرات، وبعد كل قصف يبادر أهالي درعا إلى ترميمه وإعادة تشييد مئذنته.

بعض المثقفين انتقدوا خروج الثورة السورية من المساجد، ولكنها، بصريح العبارة، خرجت من المدارس. بدأت عندما اعتقل النظام السوري عدة أطفال بسبب كتاباتهم على حائط مدرسة الأربعين في حي درعا البلد المجاور للحدود الأردنية.

أضعف النظام السوري كل أشكال الحياة المدنية في سوريا. النقابات باتت عبارة عن فرق بعثية. خير دليل على ذلك هو نقابة الفنانين، التي فصلت كبار نجوم الدراما السورية لموقفهم المضاد للنظام الساقط. أما مكاتب الأحزاب الأخرى، فقد تحولت إلى مقاهٍ صغيرة تخضع لمراقبة شديدة. المراكز الثقافية بدورها أصبحت منابر لتخليد ذكرى “الأب الخالد”، وتمجيد “الابن الوريث”.

من المضحك المبكي أن مهرجان “أبوتمام الشعري”، الذي كانت محافظة درعا تقيمه بشكل سنوي، توقف عن إحياء رسالته الثقافية الحقيقية – الشاعر المعروف “أبو تمام” هو ابن مدينة جاسم التابعة إداريًا لمحافظة درعا – في الصيف الماضي، تمّت دعوتي للمشاركة في المهرجان بصفتي شاعرًا فلسطينيًا. لكن، خلال افتتاح المهرجان، انتقد أمين فرع حزب البعث الشعراء المشاركين بشدة، لأنهم خالفوا نهج أبي تمام الشعري. أبوتمام كان قد خلد الخليفة العباسي المعتصم بالله بقصيدته الشهيرة “السيف أصدق إنباءً من الكتبِ”.

المطلوب من الشعراء المشاركين كان تخليد “القائد الأسد”، والسير على نهج حبيب بن أوس الطائي في مدح الخليفة.

9