إرث "سي بن عيسى"

أعز بن عيسى مدينته في حياته، ولديه الحق في أن تعز مدينته ذكراه بأن يحيا الموسم والمهرجان والفكرة.
الخميس 2025/03/13
قبلة كبار السياسيين والمثقفين والفنانين والأدباء

الأغنياء، من أصحاب الثروات، محسودون. لا أحد يجادل بروعة المال في حل المشاكل. لا شك أن المقصود هو المشاكل التي يمكن أن تحل بإنفاق المال عليها.

اليوم سأحاول أن أضيف عنصرا آخر كي نحسد أصحاب المال. هذا العنصر هو المرتبط بما يسمى الإرث.

الأغنياء يتركون أرصدة مالية في المصارف، وتركات عينية متمثلة في شركات وعقارات. لمثل هذه التركات، ثمة ما يمكن إحصاؤه، عندما يداهم الرحيل صاحبه ومَن حوله، مِن أسرة مباشرة وأسرة معنوية أكبر. تتجمع الأرقام في المصارف مع التركة الأخرى مقدرة بأرقام. ستكون الخلاصة: رحل وترك ثروة مقدارها كذا وكذا.

ما هي التركة لشخصية سياسية أو ثقافية؟ وللدقة، ما هو الإرث؟ أتمعن الآن في صداقة امتدت لسنوات مع الراحل الكبير محمد بن عيسى، وأجد أني جزء من هذا الإرث المعنوي لسي بن عيسى. وهو إرث باتجاهين، إذ أنظر فأرى ما حققه على مدى السنوات الطويلة من إنجاز لمدينته الوديعة أصيلة، عندما تمكن من خلال موسمها ومهرجانها وجامعتها الصيفية من تحويل حصن تاريخي على الحافة الشمالية للمغرب إلى واحد من أهم الملتقيات الثقافية والمنابر السياسية العربية والأفريقية والإسلامية.

الاتجاه الآخر يكمن في أن سي بن عيسى أعزّ مدينته في نفسه، واستقطب، بدعم ملكي واحتفاء شعبي، عددا كبيرا من كبار السياسيين والمثقفين والفنانين والأدباء. على يده تحقق الكثير للمدينة، وصار موعدنا السنوي هناك توقيتا لا يمكن أن ينسى أو أن نتأخر عنه. في دار سي بن عيسى التقينا بكبار الشخصيات وسمعنا منهم وسمعوا منا. ومن دون مبالغة، كان بن عيسى ناظرا للمناسبة نسمع كلامه ونتقيد به. والأطرف أنّ الضيوف الجدد سرعان ما يندمجون في هذا الجو الأبوي، ويلتزمون بإيقاع المناسبات وتوقيتاتها.

كان ثراء العلاقة بسي بن عيسى متعدد الأوجه، لأنه كان –متكرما- يشرك الأصدقاء في اختيار محاور الموسم ومحاضراته وشخصياته. عندما تجلس أثناء زياراتك للرباط في دار بن عيسى خلال ربيع المغرب الأخاذ، فإن فقرة من فقرات اللقاء أو العشاء لا بد أن تكون عن الاستعدادات للموسم القادم وموضوعاته وشخصياته. كان يسمع منك، ويعطيك حصتك من الاهتمام وتجد أنك تسجل حضورك يوم تذهب أثناء الموسم فتجد لمستك، مهما كبرت أو صغرت، حاضرة في اختيارات سي بن عيسى. معه، تحس بأن لديك حصة لا تقل عن حصة دولة راعية أو مساهمة ثقافية كبيرة. هذا ليس بالشيء القليل، بل كان يبعث على الشعور بالرضا، وموعد مهم تضربه مع الأشخاص والأفكار واللوحات والتجارب.

الآن صار من الضروري أن نقارن بين إرث شخصية سياسية وثقافية (من بين مسميات وتوصيفات أكثر لرجل عمل لعقود في الدولة المغربية بكل تفان وإخلاص موظفا وسفيرا ووزيرا لأهم الوزارات) وتركة الثري التي يمكن إحصاؤها بالملايين. الثراء الذي يمكن أن تلخصه قائمة مال وأملاك هو ثراء “سهل” كتركة يتقاسمها الورثة. كيف تتقاسم إرثا لشخص مثل بن عيسى؟ سأقول إن لي حصة، وسيشاركني غيري هذا التوصيف. والجميع محق.

كي تكون لنا حصتنا من إرث سي بن عيسى في موسم ومهرجان أصيلة، ينبغي أساسا أن يكون ذلك من خلال استمرار هذا الإرث. فارقنا الرجل إلى دار الحق، لكن إرثه المعنوي واسع ويتجاوز الإحساس الذي يصاحب ما يقوم به “القسام الشرعي” للثروات في حالة الأثرياء من أصحاب التركات. الإرث المعنوي لسي بن عيسى كبير وسيكبر أكثر عندما يجد من يرعاه وينمّيه، لتكون المواسم في مواعيدها والكبار من أعلام المغرب والعرب وأفريقيا والعالم يترددون على أصيلة ويرون الأثر غير المادي لأن تكون المدينة واحدة من لآلئ شمال المغرب المتعددة، ويصبح اسم سي بن عيسى مرادفا للإنجاز الفردي الذي تحول إلى مؤسسة راسخة، يرحل مؤسسها، لكنه يبقى حاضرا بيننا.

أعز بن عيسى مدينته في حياته، ولديه الحق في أن تعز مدينته ذكراه بأن يحيا الموسم والمهرجان والفكرة. هذه هي قيمة إرث سي بن عيسى متجسدة كتركة ثرية لنا اليوم، ولمن شيدت لهم تلك الصروح الثقافية والفنية.

18