دراما حول الذكاء الاصطناعي توقظ مخاوف من الروبوت

مسلسل كساندرا.. الكوابيس ليست في الأحلام وحدها.
الجمعة 2025/03/07
كساندرا روبوت منزلي تمردت على أصحاب البيت

هل من الممكن أن تثور علينا الروبوتات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي صنعها وبرمجها بشر مثلنا؟ وفي حال حصل ذلك، أي خطر يمكن أن يهدد حياتنا ويعيد تشكيلها؟ حول هذه التساؤلات المهمة يأتي مسلسل "كساندرا" الذي أحيى مخاوف دفينة من تمرد الروبوتات على البشر.

رعب قديم شديد الوطأة. كابوس مخيف يسكن حنايا الضمير الإنساني. مصدره هاجس ملح: ماذا لو انقلب السحر على الساحر؟ ماذا لو تحولت الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى أدوات لإبادة البشر بدلا من خدمتهم وتوفير الرفاهية لهم؟

يعد جيمس كاميرون مخرج هوليوود الشهير أول من أطلق العنان لهذه المخاوف المرعبة عبر سلسة أفلامه Terminator أو (المدمر) التي فاجأ العالم بأول أجزائها عام 1984، واكتسحت إيراداتها شباك التذاكر في مختلف أنحاء العالم، ووضعت أرنولد شوارزنيغر الممثل الأميركي النمساوي الأصل على أعلى هرم النجومية في هوليوود، وتحدثت عن مستقبل مرعب تسود فيه الروبوتات الأرض بعد أن تمكّن الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسه والسيطرة على الإنسان الذي صنعه.

أجواء كافكاوية

المخرج والكاتب بنجامين جوتشي يروي قصة كساندرا التي تنتقل للعيش في منزل ذكي يخضع لتحكم روبوت يُدعى كساندرا                            

بين إرهاصات كاميرون مبدع سلسلة “المدمر” منذ أربعة عقود حول مخاوف البشرية من انفلات الذكاء الاصطناعي وسيطرته على الإنسان الذي صنعه وبين وقتنا الحالي جرت مياه كثيرة في السرد الدرامي السينمائي والتلفزيوني لتفاجئنا الدراما الألمانية بعمل غاية في الأهمية وهو مسلسل Cassandra (كساندرا) وبثته منصة نتفليكس مؤخرا في ست حلقات، وحاز أعلى تقييمات موقعRotten   Tomatoesأحد أهم مواقع التقييم الدرامي العالمية وحصل على تقييم مئة في المئة، ولعبت بطولته لافينا ويلسون ومينا تندر.

جاء ذلك التقييم لتفرد طرح المسلسل المتمثل في إحياء ذكاء اصطناعي قديم ومرعب اُبْتكر منذ أكثر من نصف قرن، عن طريق الصدفة البحتة لعائلة قادمة من مدينة هامبورغ (ثاني أهم المدن الألمانية بعد برلين) حيث تنتقل إلى منزل قديم مهجور.

يقع المنزل في الأطراف النائية في مكان مبهم على النمط الكافكاوي، نسبة إلى الروائي والقاص التشيكي الأشهر فرانز كافكا، في السرد الذي يعتمد في كل أعماله الروائية والقصصية على تجهيل المكان بحيث ينصبّ تركيز المتلقي على الحدث الدرامي الذي تطرحه أعماله.

وتعمّد صانع المسلسل عدم تحديد مكان المنزل المهجور ليؤشر المنزل المهجور والواقع في الأطراف النائية الألمانية إلى رمزية دالة على أن السرد الميلودرامي لأحداث المسلسل كان مختلفا عن أعمال دراما الرعب، ويجنح للغوص في أعماق الضمير الإنساني وكوابيسه المؤرقة من طغيان الذكاء الاصطناعي على البشر وإبادتهم.

فالقادمون الجدد إلى المنزل المهجور قادمون من هامبورغ قمة العصرنة والحداثة الألمانية فهي درة الحضارة الألمانية المعاصرة حيث وهج الإبداع الفني في مختلف المجالات من موسيقى إلى فن تشكيلي إلى ثقافة وفكر كل ذلك مضفرا بإحكام مع التقدم التقني والصناعي المذهل، قادمين إلى عزلة منتقاة بعناية من صانع العمل ليواجهوا أشرس مخاوف الإنسان المعاصر في هذا البيت المنعزل.

على مدار ست حلقات، يروي المخرج والكاتب بنجامين جوتشي قصة كساندرا، التي تنتقل للعيش في منزل ذكي يخضع لتحكم روبوت يُدعى كساندرا.

ومع أن الروبوت لا يلجأ إلى العنف المباشر، إلا أن طبيعته المتلاعبة والمخيفة كافية لتمزيق العائلة. وبالتوازي مع هذه القصة، نشاهد عبر مشاهد “فلاش باك” (استعادة) عائلة أخرى عاشت في المنزل نفسه خلال فترة الستينات والسبعينات، وهي عائلة أنشأت الروبوت، ويزود الأب وهو عالم تقني لا نظير له ذاكرة الروبوت بوعي الأم التي تقف على حافة الموت بعد اكتشاف إصابتها بالسرطان في مراحله الأخيرة ليحاول الأب قبيل موتها نقل وعي الأم إلى الروبوت، ما منح هذا الروبوت إرادة مستقلة.

منزل كابوسي

يتوجب طرح هذا السؤال الفيصلي: هل نتحكم بالفعل في الذكاء الاصطناعي أم أنه من بدأ تشكيل مآلاتنا؟
يتوجب طرح هذا السؤال الفيصلي: هل نتحكم بالفعل في الذكاء الاصطناعي أم أنه من بدأ تشكيل مآلاتنا؟

تبدأ أحداث المسلسل بمجيء أسرة قادمة من هامبورغ تتكون من أب، كاتب روائي يعمل من المنزل، وأم تعمل بالنحت وابن مراهق، وطفلة إلى أقدم منزل ذكي في البلدة التي كما قلنا لا نعرف اسمها لتفاجأ الأسرة بوجود “روبوت”، قيل لهم من قبل بائع المنزل إنه لا يعمل.

لكن الابن شغله بالفعل، وظهر روبوت يحمل في الجزء الأعلى منه شاشة تطل منها كساندرا، التي لم تكن روبوتا، وإنما نسخة رقمية من وعي أم عاشت في المنزل ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكانت زوجة لرجل دفعه غروره العلمي إلى إخضاعها لتجربة إشعاعية لإصابتها بالسرطان، وشوهت طفلتها وهي جنين في رحمها، وكان ذلك العالم والزوج والأب هو الأسوأ بغروره العلمي وخيانته لزوجته، وإساءته إلى ابنه المراهق، ومن ثم شعوره بالعار من إظهار طفلته التي تسبب بتشويهها وهي في رحم أمها، حيث عمد إلى إخفائها في قبو المنزل .

بينما تعيش الأم كساندرا أيامها الأخيرة بسبب السرطان، تقرر ومعها زوجها أنها لا تريد أن تفقد أسرتها، فيصنع الزوج نسخة رقمية منها، ليموت الجسد وتبقى النسخة التي حملت آمال وآلام وأحلام الزوجة المظلومة المخذولة، وبعد فقدان أسرتها في حادث سير وبعد مضي أكثر من نصف قرن تقرر أن تستعيد أسرتها عبر السطو على الأسرة الجديدة والكيد للأم الجديدة التي جاءت للإقامة في المنزل.

ببراعة سيناريو محكم يسير المسلسل على بعدين زمنيين دراميين لأسرتين، أولهما دمرها الغرور العلمي والخيانة والخضوع لمعايير المجتمع بعدم إظهار طفلتها المشوهة وحبسها بعيدا عن المجتمع، والثاني لأسرة أقل حزنا رغم انتحار أخت الزوجة وإصابتها باضطراب نفسي، مع وجود أب سلبي يكتفي بالحضور الجسدي.

يظهر المسلسل تلك المفارقة المدهشة بين مرحلتين طغى في النسخة القديمة رجل دمر البناء الأسري بكامله، وسقط في الثانية رجل وقع في هوة غيابه السلبي عن مواجهة شرور الروبوت كساندرا، لتقف أسرته على حافة الانهيار لولا تيقظه في اللحظات الأخيرة، وتعاضده مع أسرته للقضاء على هذا الشر المستطير القادم عبر الزمن والقابع في الروبوت ذي الوعي الإنساني كساندرا.

بصمة الدراما الألمانية

أسرة على حافة الإنهيار
أسرة على حافة الإنهيار 

لا بد أن نعرّج إلى هوية الدراما الألمانية فالحديث عنها يطول شرحه، إلا أن البؤرة الأهم التي تعنينا أن هذه الدراما وليدة لأمة خاضت حربين عالميتين، وقدمت على مذبحهيما عشرات الملايين من الضحايا، فالشعب الألماني يملك إرثا غنيا من الميلودراما التي تشكلت عبر تجربتي حربين عالميتين وهزيمتين قاسيتين، نجده متجسدا بوضوح في الفيلم السينمائي المهم All quite on the western front الذي أُنْتِج منذ 3 أعوام، وحصد العديد من جوائز الأوسكار والجوائز العالمية الأخرى، ويعبر عن عمق الجرح الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى، لكنه يزخر بتراث فلسفي وموسيقي وأدبي يعكس حساسية وقدرة استثنائية على إنتاج أعمال إبداعية.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، أبهرت السينما الألمانية العالم، ورغم التحولات الجذرية التي شهدتها البلاد، من الانقسام إلى الوحدة، تواصل صناعة الدراما الألمانية تطورها، مقدمة إنتاجات درامية تلفزيونية مثل تحفتها Dark أو “مظلم” التي تعد من أهم إنتاجات منصة نتفليكس، حيث تضاهي الدراما الألمانية في روعتها تلك التي تميز بها الفن السينمائي الألماني، ويعد مسلسل “كساندرا” أحدث دليل على هذا التميز.

مع نهاية أحداث العمل الدرامي “كساندرا” نجد أننا أمام تحذير قوي يطلقه صانع المسلسل، كاتبه ومخرجه بنيامين جوتشي، من قوة الذكاء الاصطناعي وعدم الاستهانة به والمخاوف من قدرته على التحكم في مصائرنا كبشر، أو على أقل تقدير تأثيره في حرياتنا الشخصية حيث يتوجب على الجنس البشري طرح هذا السؤال الفيصلي: هل نتحكم بالفعل في الذكاء الاصطناعي أم أنه من بدأ تشكيل مآلاتنا؟

15