برتولت برشت شاعر المقاومة والرفض وناقد الرأسمالية المتوحشة

مع برتولت برشت ثار الفن المسرحي على قرون طويلة من أشكاله القديمة ورسائله المنمقة، وتحول إلى قوة تغيير حقيقية، وعلى خطاه سارت فنون كثيرة اشتبكت مع الواقع وثارت على الحرب والدمار والوحشية الرأسمالية وغيرها من شروط تقتلع من الإنسان إنسانيته، وفي تأمل لدور الفن والإبداع في الواقع يمكننا استحضار أعمال برشت في مواجهة النازية.
“أي زمن هذا/ الذي يوشك فيه الحديث عن الأشجار/ أن يكون جريمة/ لأنه يتضمن الصمت عن أهوال لا تحصى”. بهذا الجزء المقتطف من قصيدة تُعد من أشهر ما كتب برتولت برشت (1898 – 1956)، وهي قصيدة “إلى الأجيال القادمة”، يفتتح المترجم سمير جريس ترجمته لمسرحيتي “بنادق السيدة كَرّار” التي تُنشر لأول مرة باللغة العربية عن دار “صفصافة”، و”99 في المئة” التي شاركته في ترجمتها الروائية ريم نجمي.
في هذه القصيدة يعتذر برشت عن إخفاق جيله في مواجهة الزمن الفاشي الأسود. يقول برشت: “كنت أتمنى أن أكون حكيما./ عن الحكمة نقرأُ/ في الكتب القديمة:/ أن تتجنب الخصام في العالم،/ وأن تعيش وقتك القصير بلا خوف/ وأن تحيا بلا عنف (…). حقا، إنني أعيش في زمن مظلم.”
مواجهة النازية
المسرحيتان صدرتا تحت عنوان “الخوف والبؤس في الزمن الفاشي”. يقول جريس عن الدافع وراء ترجمته لـ”بنادق السيدة كرار”، إن “خلال حرب غزة الطويلة طُرح سؤال المقاومة المسلحة مرة أخرى، وهو سؤالٌ سيظل مطروحا، ما دام هناك غزو واحتلال واستعمار وحروب. في تلك الفترة رجعت إلى إحدى مسرحيات برشت الشهيرة التي كتبها بعد هروبه من ألمانيا النازية، وهي مسرحية ‘بنادق السيدة كرار’، وشرعت في ترجمتها. آنذاك، لم يكن برشت يريد أن يكتب أعمالا يضعها في درج مكتبه انتظارا لزمن أفضل، بل كان يريد المساهمة في مكافحة الفاشية.”
ويضيف جريس في مقدمته التي عنونها بـ”برتولت برشت: شاعر المقاومة والرفض، وناقد الرأسمالية المتوحشة” أن برشت عاش حقا في زمن حالك السواد، ومضى “الوقت الممنوح” له على الأرض وهو يفر من وجه النازيين، يغير “بلدا ببلد” / أكثر مما يغير “حذاء بحذاء”، مثلما قال في إحدى قصائده. لاحق النازيون برشت منذ عام 1930. وعندما اقتحمت الشرطة أحد عروضه في عام 1933، واتهمت منظمَ العرض بالخيانة العظمى، أدرك أن عليه الرحيل. وفي الثامن والعشرين من فبراير 1933 – أي بعد مرور شهر على انتخاب هتلر وتولي النازيين السلطة، وبعد يوم واحد على حريق الرايخستاج (البرلمان الألماني) – قرر مغادرة وطنه.
ويتابع “أخذه قطار المنفى في البداية إلى براغ وفيينا، ثم إلى زيورخ، ومنها إلى الدنمارك حيث عاش عدة سنوات. ولأنه كان يخشى أن يحتل الجيش الألماني الدنمارك (وهو ما حدث لاحقا)، واصل الرحيل إلى السويد في ربيع 1939، ثم إلى فنلندا. وفي عام 1941 حصل على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، فرحل إلى هناك حيث اشترى بيتا واستقر في مدينة سانتا مونيكا بالقرب من هوليوود. لكن حقبة المكارثية والتحقيقات التي أُجريت معه بتهمة الشيوعية وضعت حدا لهذا الاستقرار، فهاجر من جديد إلى سويسرا، ثم حاول السفر إلى برلين الغربية، إلا أن سلطات الاحتلال الأميركية منعته، فدخل برلين الشرقية في أكتوبر 1948. وسرعان ما احتضنته قيادة الدولة الجديدة في الشطر الشرقي من ألمانيا المقسمة، وعهدت إليه بإدارة مسرح ‘برلينر إنسامبل’ الذي أصبح اسمه ‘مسرح برشت'”.
غير بعيد عن المسرح البرليني سكن برشت في شقة في “شوسيه – شتراسه” رقم 125، وهي الآن مقر المتحف الذي يحمل اسمه والمكرس لتاريخه وإبداعه، وكانت نافذة غرفة نومه تطل على مقبرة “دوروتيه” التي تضم رفات فيلسوفي المثالية الألمانية فشته وهيغل، ما جعل برشت يوصي بأن تكون هذه المقبرة مثواه الأخير.
ويرى جريس أن برشت الكاتب الشاب آنذاك، كان له نظرة ثاقبة، وتحليل دقيق للظروف المجتمعية التي أدت إلى نشوء النازية، ما يتجلى في الكلمة التي ألقاها برشت عام 1935 في المؤتمر الدولي للكتاب المنعقد في باريس، حيث هاجم زملاءه “البورجوازيين” الذين اعتبروا النازية مرضا عابرا أصاب الجسد الألماني، أو “عطلا” مفاجئا في ماكينة الدولة. لم ينضم برشت إلى جوقة الذين شيطنوا هتلر، أو نظروا إلى أتباعه باعتبارهم “حثالة” الألمان، إذ إن ذلك ينزع المسؤولية عن الألمان، فهتلر وأتباعه – في نظر ذلك الفريق – لا يمثلون ألمانيا أو الألمان.
برشت لا يتورط في الإدانة المتعالية وهو الذي نجا بنفسه عبر المنفى ولذلك يعرض أزمة المقاومين ويتعاطف معهم
رأى برشت أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فالنازية في ألمانيا، والفاشية في أوروبا، هما نتيجة مباشرة للنظام الرأسمالي المتوحش الذي يدافع عن مصالحه “بالأنياب والأظافر”، مستغلا الطبقة العاملة أبشع استغلال. كان هتلر قد تحالف في ألمانيا تحالفا قذرا مع رجال أعمال مرموقين (مثل أصحاب شركات كروب، وتيسين، وسيمنس، ود. أوتيكر، وفولكسفاجن، وباير، و”دويتشه بنك”)، لذلك قال برشت إن الذي يهاجم الفاشية دون مهاجمة أسبابها أو محاولة اجتثاث جذورها، أي دون مهاجمة النظام الرأسمالي الظالم، ودون “تغيير علاقات الملكية”، هو كمن يرفض ذبح العجل، لكنه يستمتع بأكل قطعة من “الاستيك”، أو بكلمات برشت “هؤلاء يريدون نصيبهم من العجل، لكنهم لا يريدون ذبحه، يريدون أكل لحم العجل، لكنهم لا يريدون رؤية الدماء. وهم يشعرون بالرضى عندما يغسل الجزار يديه قبل أن يقدم لهم اللحم.”
ويؤكد جريس أن برشت لم يكن يريد أن يكتب أعمالا يضعها في درج مكتبه انتظارا لزمن أفضل، بل كان يريد المساهمة في مكافحة الفاشية. وهكذا بدأ في منفاه الدنماركي يكتب مسرحية “بنادق السيدة كَرّار” (بالتعاون مع مساعدته مَرجريته شتيفن) لفرقة مسرحية ألمانية في باريس، وذلك في العام الأول من الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت من يوليو 1936 حتى أبريل 1939. دارت الحرب بين القوى الديمقراطية المنتخبة والانقلابيين اليمينيين الكاثوليك بقيادة الجنرال فرانكو. وقد ساندت إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية قوات فرانكو حتى انتصر، ودام حكم الدكتاتور الفاشي حتى عام 1975.
في المسرحية يؤكد برشت فشل المقاومة السلمية لنظام فاشي قمعي مسلح، ويبرز أهمية المقاومة المسلحة، بل وضرورتها، فالحياد يعني أن نرضى “بكل حمام دم يحدث”، مثلما يقول العامل في المسرحية، أما الرفض السلبي فيعني الاستسلام. وخلال حياة برشت كانت هذه المسرحية من أكثر مسرحياته عرضا على خشبة المسرح. قُدمت المسرحية لأول مرة في السادس عشر من أكتوبر 1937 في باريس، وقامت بدور البطولة زوجته الممثلة المشهورة هيلينه فايجل. ولأن الحرب في إسبانيا لم تكن قد انتهت بعد، ترك برشت نهاية المسرحية مفتوحة. ولم تعرض المسرحية في ألمانيا إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
99 في المئة
يشير جريس إلى أن برشت في منفاه الدنماركي شرع يجمع مادة عن الرايخ الثالث، مستخدما برامج إذاعية وتقارير صحفية وشهادات شهود عيان، واستنادا عليها كتب في الفترة من 1935 حتى 1938 خمسة وثلاثين مشهدا تصور الحياة اليومية في ألمانيا النازية. من بين تلك المشاهد تم اختيار 24 مشهدا عندما طُبعت المسرحية لأول مرة في ألمانيا عام 1948، وهي المشاهد المُترجمة. أطلق برشت على عمله في البداية عنوان “ألمانيا – حكاية وحشية”، وهو عنوان يحيل بالطبع إلى قصيدة هاينريش هاينه المشهورة “ألمانيا حكاية شتوية”.
وفي الحادي والعشرين من مايو 1938 شهدت باريس العرض الأول (بالألمانية) لثمانية مشاهد من المسرحية تحت عنوان “99 في المئة – صور من الرايخ الثالث”، وقامت بدور البطولة هيلينه فايجل، زوجة برشت. ويسخر العنوان مما روجته الدعاية النازية عن الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العاشر من أبريل 1938 (أي عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية)، إذ أشاعت أن نسبة الألمان الذين انتخبوا هتلر بلغت 99 في المئة. أما العنوان الذي اختير بعد ذلك في طبعة الأعمال الكاملة لبرشت فهو “الخوف والبؤس في الرايخ الثالث”.
وقد فضل في هذه الترجمة عنوان العرض الباريسي الأول: “99 في المئة”، لأنه يرى أن المسرحية لا تتحدث عن الرايخ الثالث أو عن ألمانيا فحسب، إنها تعرض ببراعة أيضا آليات القمع الفاشي، وإمكانية استخدام الديمقراطية والانتخابات (سواء كانت نزيهة أم مزورة) لإقامة نظام يزرع الخوف في نفوس الناس، وينشر البؤس الأخلاقي بينهم. ولا يخفى عن القارئ أن نسبة 99 في المئة (وأحيانا 99.99!) ظلت سُنة متبعة في بعض الانتخابات العربية.
بعد باريس عُرضت المسرحية في سان فرانسيسكو بحضور الكاتب في السابع من يونيو 1945، أي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان العرض جزءا من الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة تأسيس الأمم المتحدة وتوقيع ميثاقها. وفي الثلاثين من يناير 1948، أي في ذكرى مرور 15 عاما على تولي هتلر السلطة، عُرضت المسرحية لأول مرة في ألمانيا، وذلك في “المسرح الألماني” الواقع في برلين الشرقية. وقد بدأت المسارح الألمانية تعيد اكتشاف هذا النص في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد تنامي تيارات اليمين المتطرف في أعقاب مجيء أعداد كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا، فنجد مسرحين مرموقين – مسرح برلينر إنسامبل (مسرح برشت سابقا)، ومسرح دورتموند – قد اختارا بعض المشاهد من المسرحية لتقديمها في عام 2016.
في المسرحية يؤكد برشت فشل المقاومة السلمية لنظام فاشي قمعي مسلح، ويبرز أهمية المقاومة المسلحة، بل وضرورتها، فالحياد يعني أن نرضى "بكل حمام دم يحدث"
ويتساءل جريس “كيف تجعلهم يَقبلون بلا تذمر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟” ويقول في أحد المشاهد الدالة في مسرحية “99 في المئة”، “يتبادل نازيان الحديث، ويسأل أحدهما الآخر: كيف تجعل الناس يَقبلون بلا تذمر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟ عندئذ يشير الأول إلى قطة تتشمس قائلا: لنفترض أنك تريد أن تطعمها ملعقة كبيرة من المسطردة، كرهت القطة أم أحبت، ماذا تفعل؟ يأخذ الآخر المسطردة ويدخلها إلى فم الحيوان قسرا، غير أن القطة تقوم بالطبع ببصق المسطردة على الفور في وجهه، دون أن تبلع نقطة، ولا ينوب الشخص إلا خربشات لا تعد ولا تحصى. عندئذ يقول الأول: أنظر إليّ. ثم يتناول المسطردة بسرعة ماهرة، وفي لمح البصر يلصقها بمؤخرة القطة البائسة التي تحاول على الفور وهي مأخوذة مخدرة – فالألم فظيع – أن تلعق المسطردة كلها. هل ترى يا عزيزي، يضيف الأول بلهجة منتصرة: الآن تلتهم المسطردة، وبكامل إرادتها”. (مشهد “صليب الطباشير)”.
ويتابع التساؤل: كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم نظاما فاشيا كهذا؟ كيف يقاوم عامل، على سبيل المثال، لا يجد عملا إلا في مصنع ينتج سلاحا لهتلر؟ أو كيف يقاوم صياد فقير قوات فرانكو المسلحة بالطائرات؟ ويقول “برشت لا يتورط في الإدانة المتعالية وهو الذي نجا بنفسه عبر المنفى، ولذلك يعرض أزمة المقاومين ويتعاطف معهم، وهم لدى برشت من طبقة العمال والبسطاء على وجه الخصوص: الأم التي ترفض أن تتماهى ابنتها مع شبيبة هتلر، أو المحتضر الذي يظل حتى آخر أنفاسه يهاجم ابنه، معتنقَ الأيديولوجية النازية، ويسخر من القس الذي يتهرب من اتخاذ موقف صريح، مستخدما عبارات فضفاضة مثل ‘إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله’، أو المرأة التي ترتدي السواد وتبكي وتنتحب حزنا على مصرع أخيها الطيار، متحدية بذلك أوامر النازيين، بل وتصفهم بأنهم ‘عتاة المجرمين’، غير عابئة بعواقب كلامها. رغم كل شيء يرى برشت بصيصا من الأمل.”
وهو ينهي مسرحية “99 في المئة” برسالة أحد المقاومين المحكوم عليهم بالإعدام، يؤكد فيها لابنه أن نضاله لم يكن عبثا، وأن حياته اكتسبت قيمتها عبر مقاومة القامعين، لأنه إذا لم يفعل، “غرقت البشرية كلها في أوحال الهمجية”. ويختتم برشت المسرحية بكلمة واحدة، أو صرخة وحيدة، هي: لا! أما في “بنادق السيدة كرّار” فتنتهي المسرحية بانضمام السيدة كرّار إلى المقاومة المسلحة، وهي التي رفضتها طويلا على أمل النجاة والحفاظ على حياة ابنيها، ولكنها تغير رأيها بعد مقتل زوجها وابنها.
يذكر أنه لم تسبق ترجمة هاتين المسرحيتين إلى العربية من قبل. وقد نُشرت ترجمة مسرحية “99 في المئة” في طبعة محدودة عام 2019 لدى الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، وشاركته في الترجمة ريم نجمي، وهذه طبعة جديدة منقحة. أما “بنادق السيدة كَرّار” فهي تُنشر للمرة الأولى باللغة العربية.