شبح الدكتاتور في الأفلام.. فرانكو والأسد يطاردان الأبرياء

"احترقت بلادي" و"الخندق الأبدي" فيلمان يدينان الدكتاتورية بهدوء.
الأحد 2025/03/02
الأطفال ضحايا الحرب في سوريا

الحرب مأساة بالضرورة، لا تفرق بين طفل وامرأة وجندي، الجميع ضحايا فيها، ووحدهم الدكتاتوريون والقادة اللطفاء هم المسؤولون عنها وعن أهوالها. وكثيرة هي الأفلام التي تناولت الحروب الأهلية وغير الأهلية، ولكن قليل منها ما نجح في كشف الجانب الإنساني المجهول بعيدا عن المعارك وساحاتها، فهناك في المخابئ والمنافي والملاجئ حيث يواصل الناس محاولة الحياة ضد الموت.

إذا رأيت مواطنا جائعا، يتململ في وقوفه على الرصيف، يكلّم نفسه، وينظر بعيون منكسرة إلى رواد مطعم، فاعلم أنه عنوان كارثة، ضحية دكتاتور لا يوفر له فرصة عمل، ويحرمه من كرامة يمنحها العمل، ويمنعه من رفع صوته بالشكوى؛ خوفا من اعتقاله بتهمة زعزعة السلم الأهلي، والانضمام إلى جماعة إرهابية تريد السيطرة على الحكم. من هذه الهوان تنبع الدراما.

ولا تحتاج الأفلام المناهضة للدكتاتوريات إلى التسلّح بشعارات زاعقة. يكفي مشهد يدل على ضحايا استبداد لا يختلف، إلا في الدرجة لا النوع، بين مستبد عسكري مثل الجنرال فرانسيسكو فرانكو في إسبانيا، ومستبد طبيب مثل الدكتور بشار الأسد في سوريا.

تبادل أدوار مؤلم

الفيلم حكاية إنسانية بسيطة وعميقة ولكنها مؤلمة، قد تقع في أي جغرافيا اُبتليت بحرب أهلية أو غير أهلية
الفيلم حكاية إنسانية بسيطة وعميقة ولكنها مؤلمة، قد تقع في أي جغرافيا اُبتليت بحرب أهلية أو غير أهلية

في الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، (5 ـ 11 فبراير 2025)، عرض الفيلم الوثائقي «احترقت بلادي». الإنتاج بلجيكي، وفريق العمل من الأجانب باستثناء السوري عبدالرحمن الشويكي مخرج الفيلم الذي يلخّص، في 31 دقيقة، المأساة السورية من دون هتافات احتجاج على الدكتاتور. فليس من مهام الآداب والفنون نقل الواقع حرفيا أو محاكاته. أثقال الحروب، على سبيل المثال، عبء على الدراما ما لم يجد صناع الأفلام معادلا فنيا أكثر وفاء للفن؛ لإنقاذ أعمالهم من أعشاب الواقع وراهنيته، فيضمنون للفن حياة متجددة تتجاوز مأساة اللحظة.

الحرب في الفنون تستغني عن عنف القصف، وسيلان الدماء، وتناثُر الأشلاء المبتورة. الحرب حيث يغيب الأمان، ويضطر المواطن إلى الفرار لإنقاذ حياته وحماية أهله. ففي بلدة عرسال في شمال شرقي لبنان تدور وقائع الفيلم السوري «احترقت بلادي»، وفيه تمثل معلمة لبنانية بإحدى المدارس الروح الإنسانية النبيلة، وتعنى بتعليم الأطفال. تراهن على تأهيلهم نفسيا وتربويا؛ لتجاوز محنة لا ذنب لهم فيها. لا تفرق بين تلميذ لبناني وآخر سوري اضطر أهله إلى اللجوء. المعلمة لا تتكلم في السياسة. لا تدين أحدا، ولا تنظّر للمشكلة للتوصّل إلى المسؤول عنها. من المحظوظين بهذه المعلمة عمر الخطيب، الصبي الذي صار أبا لأبيه القعيد حسين الخطيب.

حكاية إنسانية بسيطة وعميقة، قد تقع في أيّ جغرافيا اُبتليت بحرب أهلية، أو غير أهلية. والفيلم لا يلعن الحرب، ولا يذكرها أفراد أسرة يرصد الفيلم بذكاء وإيجاز تفاصيل حياتهم، وكيف جعلت الحرب الأهلية في سوريا ابنا صغيرا يتبادل الأدوار مع أبيه، يرعاه ويحمّمه. والأم تدبر شؤون مسكن اللجوء الفقير، وتحكي بكبرياء، وتعاند دمعة تكشف ضعفها.

الأب المشلول يبتسم، ويعجز أحيانا عن منع دمعة عزيزة، ويأمل أن يصير ابنه المتفوق طبيبا، ويؤكد أن «عمر بطل». من دون تعليق صوتي من خارج الفيلم، يقول الأب جملة عابرة، جملة واحدة، عن قناص استهدفه برصاصة أصابت عموده الفقري. لا ذكر للحرب الأهلية، ولا أجواء جنائزية في الفيلم. تكفي جملة واحدة للدلالة على حرائق سورية بدأت باشتعال الثورة عام 2011، ثم تحوّلت إلى حرب أهلية. أصابع الاتهام تشير، بهذه الجملة، إلى بشار الأسد من دون ذكر اسمه. الإدانة المأساوية تجعل هروب الرئيس الطبيب الدكتاتور إلى روسيا مكافأة، وتوجب محاكمته.

رجل لا يرى الشمس

بطل الفيلم "الخندق الأبدي" مات وهو حي، دخل القبر هاربا من الموت الذي أذاعه الجنرال فعاش رهين الظلام
بطل الفيلم "الخندق الأبدي" مات وهو حي، دخل القبر هاربا من الموت الذي أذاعه الجنرال فعاش رهين الظلام

اسم الجنرال فرانكو يذكر، في الفيلم الإسباني «The Endless Trench» (الخندق الأبدي)، في الدقيقة الحادية والستين. لا كلام عن حرب أهلية يقودها الجنرال الدامي. لا شعارات مؤيدة له أو رافضة، إلا مرة واحدة في الدقيقة 43، بهتاف خافت من مسيرة بعد هزيمة الجمهوريين: «اطردوا الشيوعيين، فلتحيا إسبانيا.»

فيلم «الخندق الأبدي» أخرجه ثلاثة إسبان: خوسيه ماري جويناجا وإيتور أريجي وجون جارانيو. الجنرال قتل مئات الآلاف من المحاربين والمسالمين، ماتوا واستراحوا وإن ظلت أرواحهم قلقة على الأحبة الأحياء. لكن بطل الفيلم مات وهو حي، دخل القبر هاربا من الموت، عاش رهين الظلام رمزا لجيل شوهه الجنرال فرانكو.

الشاب هيجينيو (الممثل أنطونيو دي لا تور) يلزم الخندق، ويزهد في كل شيء، ويصبح البقاء على قيد الحياة هدفا وحيدا، قيمة تخلو من المعنى، وتتساوى فيها الكائنات الحية. هل تشعر الحيوانات بالقهر؟ أما روسّا (الممثلة بيلين كويستا) ففي لحظة انفعال تعنّف زوجها هيجينيو، تلومه على خضوعه للمذلة، وجبْنه عن حمايتها من رجال يظنونها صيدًا؛ لأنها أرملة منذ اختفائه في عام 1936. كان عسكر فرانكو قد قبضوا على الزوج المنتمي إلى الاشتراكيين، وتمكن من الهروب، ورأى الرصاص يحصد رفاقه، واستطاع التسلل إلى البيت، قابعا في المخبأ السري.

ثلاث سنوات من الاختفاء، حتى إن أباه يظنه مات. ثم تقوم روسّا بإخبار الأب، فيستطيع رؤية هيجينيو، بقدر ما تسمح به إضاءة محسوبة، يبرع المصور خافي أجيري إيراوسو في تصوير خلجات الابن الناظر إلى الأعلى، يتلمس وجه الأب الخائف. مشهد ليلي على الرغم من حدوثه بالنهار، ومعظم المشاهد ليلية في مخبأ لا يرى الشمس. ويقترح الابن بناء جدار وهمي، في بيت أبيه، ليختبئ في حفرة خلفه. وينتقل في صخب احتفالات فرانكو بهزيمة الجمهوريين، ويموت الأب ولا يستطيع الابن المرعوب وداعه. وبمرور الوقت يفقد هيجينيو حماسته للتغيير، والزوجة تريد إنجاب ابن، ويرهن الزوج قرار الإنجاب بانتصار الحلفاء. وتتسع الشروخ النفسية بينهما، ويحقق انتصارا وحيدا والزوجة تتعرض للاغتصاب، فينقذها ويقتلان المعتدي، ويدفنه في الحفرة، ويقيم فوقه.

أفلام الدورة الـ26 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة تتناول الحرب من زاوية أخرى
أفلام الدورة الـ26 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة تتناول الحرب من زاوية أخرى

أين فرانكو من هذا كله، بعد ستين دقيقة من زمن الفيلم، وتسع سنوات من اختباء المطارَد؟

الجنرال هو الآخر مختبئ، سرطان يسري في الدماء، خوف يأكل الأرواح. أول ذكر لاسمه جاء على لسان روسّا، رأته في شريط إخباري تلفزيوني. تقول لزوجها: «لا يبدو كقائد.. صوته نوعا ما لطيف جدا.. يبدو كامرأة متنكرة.» ويتدفق من الراديو كلام عن صعاب ورثتها إسبانيا، وعلى الرغم من ذلك «ستولد من جديد.» وتغادر روسّا البيت، عند أهلها لتضع مولودها، وبعد العودة تدّعي أنه ابن أخيها وهي عمّته. في فترة الغياب يقتحم البيتَ شابان، وهيجينيو يضبطهما معا في السرير، يستحلفانه ألا يبوح بعلاقتهما السرية، وفي المقابل لن يفشيا سرّه. تواطؤ على الكتمان. مقايضة سرٍّ بسرٍّ.

هيجينيو يكلم الشابين عن حقوق الإنسان التي حلم الجمهوريون بتحقيقها. وأحد الشابين ينفي علاقته بالسياسة، فيدرك هيجينيو أن فرانكو نجح في تغييب الشعب. ترجع روسّا بابنهما، وتنتهي الحرب العظمى، يخبرها الزوج بانضمام إسبانيا إلى الأمم المتحدة، فتسأله: «هل يعرفون ماذا يفعل فرانكو هنا؟» متى اهتم الجنرالات بالشعوب؟ الجنرال أيزنهاور الذي قاد قوات الحلفاء، وتغلب على دفاعات الثعلب روميل، يصير رئيسا للولايات المتحدة ويلتقي الجنرال فرانكو، وهيجينيو المذعور لم يعد قادرا على الخروج. ويكبر ابنه، ويأتي بصديقه «خوان» الذي يخبر هيجينيو بأن أباه مختبئ أيضا منذ 25 سنة، فيأسى الأب، وينصح خوان بالتخلي عن أوهام النضال. يحثّه على البحث عن حبيبة، وإنجاب أطفال.

ظل الجنرال يتكلم عن أحلامه في عالم مليء بالمشكلات، والجار يفتش عن هيجينيو «مجرم الحرب»، والابن يطالب أباه بمعرفة الحقيقة، ويتهمه بالجبن، وقد مات رفاقه في الجبهة، ويسخر منه: «لا يهتم بك أحد إن خرجت، لن يأكلك أحد.» ويصدر عفو عام، في الذكرى الثلاثين لهزيمة الجمهوريين؛ فلا تخاف الزوجة من نشر ثياب زوجها، ولا يقوى على رؤية النهار، وأقدامه تتدرب على المشي.

نهاية الدكتاتور

النظرات تحكي مسيرة الهرب من الموت
النظرات تحكي مسيرة الهرب من الموت

ماذا فعلتَ أيها الجنرال؟ تجيب رواية «العائش في الحقيقة» لنجيب محفوظ: «ولا غرابة أن يستطيع معتوه ـ إذا جلس على العرش ـ أن يخرب إمبراطورية!» تخريب الدولة يمكن تداركه بإعادة البناء، أما الأصعب فهو تخريب الضمائر، وتشويه النفوس.

حكم الدكتاتور حتى عام 1975، ودفن في مقبرة الدولة التي سخّر فيها ضحاياه، ومات نحو 34 ألفا، ودفنوا تحت البناء، ولم يحظوا بدفن كريم، ولم يسترد ذووهم رفاتهم. ولأنه «لا بدّ من يوم معلوم تترد فيه المظالم،» ففي عام 2019 قضت المحكمة العليا الإسبانية بنقل رفات الدكتاتور من وادي الشهداء، حيث ضريحه الضخم، إلى مقبرة عائلية بعيدة، وتحويل وادي الشهداء إلى نصب تذكاري لضحايا الحرب الأهلية التي أشعلها فرانكو، وقتل خلالها زهاء نصف مليون. قررت المحكمة بالإجماع «رفض الطعن المقدم من الأسرة في ما يتعلق باستخراج جثة فرانسيسكو فرانكو.» يموت الدكتاتور، ويحتاج الشعب إلى عقود للشفاء، يتداوى بالإبداع كتابة وأفلاما.

في دمشق، بعد هروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، ودخول قوات هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع، (أبو محمد الجولاني سابقا)، دمشق من دون إطلاق رصاصة تقاومه، بدأ الانتقام من عظام المقابر. ضاق الشام بمقبرة تصون عظام عائلة طُويت طيّ السجل، دُمّرت التماثيل، وانتهكت الصور، وأشعلوا النار في قبر حافظ الأسد. فماذا ينتظر الابن الهارب؟

11